مدينة من ورد، وود، وكأن حدائق العالم الحسان أهدتها زنابقها، وياسمينها، وجوريها، ونفح كاديها، هي هكذا تبدو لافتة، تغري الأنظار، نابضة، تروي عطش المكلومين من لهفة الحب، هكذا يناظرها بكل ود عشاق الطبيعة، وحين يرتقي السياح جبل القيم، ويصعدون إلى قمته العالية، تتبلل ذاكرتهم برشقات من ندى الغيم «العاطر»، ومن على شاهق الجبل يمكنهم إطلاق عصافير مشاهداتهم إلى الآفاق البعيدة، عندها ستتبدى لهم المدينة بوجهها الصبوح، وكأنها باقة من الأزهار، والأضواء، انبثقت من حشاشة الجمال، تلك هي عروس السراة «الباحة الفيحاء»، المدينة التي تنبض بعشق أزلي، يرف بين أضلع مدينة قد احتواها الجمال، وأبى أن يفارقها، لتغدو مثل قنديل أخضر مشع معلَّق بحنو بين السماء، والأرض، في المسافات البعيدة يمكن للعين مشاهدة الجبل، الذي يدس رأسه في السحاب، إنه جبل «شدا» ذلك الجبل الذي يعتمر عمامة من بياض، ولبعده لا يمكن مشاهدة تفاصيل جماله، إنما يترك سحراً مغرياً للبصر، لا ينفك المشاهد المبهور من التشبث بتلك اللوحة، التي تؤكد أن للجبال كعباً عالياً في متون البهاء، ودفاتر العشق. في الباحة يهطل ودق الكلام من سحائب شفتيها، وحين يلامس أردان الأرض، يتحول إلى لحن عبقري، ينساب بين أعطافها، ويجري فوق قطيفة جسدها، ويسقي حقولها، ويتماهى فوق ورد وجنتيها، لتغدو الحروف بيضاء شفافة، يرتلها الأطفال كل صباح قصائد عشق، لتسافر عبر صفحات التاريخ البعيد، لتصل إلى أسماع «الأزدي» الذي يقف مزهواً بقامته الفارعة، ويضرب بعصاه الصخر، لتتحول إلى مصاطب نماء، وازدهار، تزدهي بسنابل القمح، وأكواز الذرة، وعناقيد العنب. وحين يلتفت الزائر إلى الوراء ستكون على مرمى غشقة مطر، ستكون غابة رغدان بجمالها الفتان، وثوبها الأخضر، تلك الغابة الآسرة، اتخذت الجمال مساكن لأشجار عرعرها، واغتسلت بماء الشعر، فغدت قصيدة تهفو لها القلوب، أبياتها تراتيل عشق، كتبها المولعون بالضياء، ومهروها بأناملهم، لتبقى محفورة في جدران القلوب كذكرى تتجدد مع منعطفات الزمن، أوزانها موسيقى حانية لأغانٍ تسري مع قطعان الغزلان إلى مراتع القمر، في رغدان تخضر الحروف، وتغدو مثل أباريق من فضة، وأجنحة من عسجد. وحين يود الزائر أن يمتع ناظريه، فزهران ليست بعيدة، تسكن تجاويف القلب. حين اشتعلت جذوة القصيد قال الشاعر الضبياني: هل عادك الشوقُ غضّاً في ربا الباحة إلى الصِّبا واستعاد القلبُ أفراحه وهل زها لك نجمٌ وانتشى قمرٌ وافترَّ ثغرٌ عن الأزهار فوّاح أما الشاعر الأديب عبدالله بن خميس، فكانت الباحة واحدة من محطات الجمال لديه، حيث أنشد قائلاً: يا أخت لبنان تدبيجا وتكوينا يا فضة السحر مجلواً ومكنونا يا آية من حلى الإبداع ناطقة يا صفحة صورت فناً أفانينا أرادك الله إبداعاً على قدر مع الجمال فكوني من تكونينا روض أريض الشذا جم خمائله لا تنسين رباها والبساتينا في الباحة سكن الجمال، فأورق حروفاً من نور، ليتغنى بها، وعنها الشاعر علي المنكوتة: من أسكر الورد حتى قام في علن يشكو نداها إلى الأقلام والكتب إليك مهوى حروف الشعر والأدب وحي يخامرها ما نام من تعب بنى الجمال على أجفانها وطنا فأسكرت من ثناياها ظما السحب من بهاء الباحة، وحسنها استل الشعراء جماليات قصائدهم ليتناقلها الركبان، فهي مُشعلة للقريحة، مريحة للنفس، مبهجة للروح. ومضتان: رواية في مساءٍ محموم لمح وجهها.. كان خريطة من الأوجاع.. استل قلماً، وبدأ يكتب روايته التي انتهت.. ذكرى شَعر باختناق.. فتح النافذة.. تسربت رائحة لعطرٍ يتذكره.. استيقظ صباحاً، ولم ير سوى جدار مغلق.