من الممكن تغيير مسار المحادثات مع الغير أو المواقف الجمعية لتتحول إلى مناقشات استفزازية للوصول بذلك لمنطقة ودرجة يتم فيها تحريك ما بدواخلهم من أفكار جديدة وخلّاقة أو ذات وقع فعلي له أثر في قضيّة وموضوع ما، ليتم حلّه وتفكيكه بإيجابية، المتميزون ومن يملكون بعداً واعياً هم من يصلون بمحيطهم المجتمعي إلى مسار يهرب بمخيلتهم بتحفيز الذهنية والنفسية لطرف إيجابي الأثر سواء على مستوى الأفكار أو الإجراءات الفعلية التي توصلنا لمرحلة الدهشة، وفي عصرنا الحالي الذي تصدق عليه تسمية عصر الفضاء الإلكتروني لما نجد من سيطرة التقنيات الإلكترونية على تفاصيل حياتنا ومساراتها، تتسع مساحة رصد الأقوال وردات الفعل على مساحات شاسعة يشهدها القاصي والداني، فلم تعد المجتمعات منحصرة البيئة ولا محصورة الصوت، فبرامج ومواقع التواصل الاجتماعي فتحت الأبواب المنغلقة وأخرجت قضايا كانت في ظلمة دامسة لتظهر للعيان ويتشارك المجتمع في التعاطي مع الحدث إن كان في الشرق أم الغرب. «تيا» الطفلة النرويجية التي حولت بوصلة المجتمع الدولي نحو قضية إنسانية عميقة دون أن تصرخ أو تستجدي أو حتى تتمسكن لطلب المساعدة، كل ما قامت به هو نشر عبارة عبر مدونتها وهي: «اسمي تيا، وعمري 12 عاماً، وسأتزوج من رجل يدعى جير، وعمره 37 عاماً» لم تكن هذه العبارة إلا شرارة انطلقت لتتحول لطوفان بشري برفضه وإدانته المدويَّة لهذا الحدث غير العادل، تجاوز النصف مليون، مستنكراً ورافضاً، فكيف لأبوين راشدين أن يتخذا قراراً مثل هذا، ويقطفا ابنتهما من حدائق الطفولة ليرمياها في معركة هي أثقل هماً وحملاً مما تتحمله طفلة في عمرها. كانت صدمة كبيرة للمجتمع النرويجي فلم يكتف أفراد مجتمعها بالرفض والإدانة عبر صفحاتهم الاجتماعية وفي مدونة الطفلة «تيا»، لكنهم تجاوزوا ذلك بردات فعل متباينة، بعضهم سعى لثني والديّ «تيا» عن إتمام إجراء هذا الزواج الذي وصفوه بالجريمة في حق الطفولة، وبعضهم أجروا اتصالات مكثفة بالشرطة والجهات المعنية برعاية الطفل ليتم التدخل لمنع وقوع هذه الجريمة التي ستكون الأولى في النرويج الذي لا يُسمح قانونه بالزواج دون سن 18 عاماً. وبعضهم كان له حضور في تجمع أمام مبنى الكنيسة في العاصمة، ضم أعداداً من البالغين والأطفال محتجين على إجبار وفرض أبويها عليها هذا الاختيار لزوج يكبرها ب25 عامًا وزواج هي لا تدرك ماهيته لحداثة سنها. ها هو اليوم الموعود والحاسم، وقفت «تيا» أمام رجل الكنيسة ليبدأ بمراسم الزواج، الجميع سيطرت عليه حالة من المشاعر السلبية والمختلطة بالغضب من هذا المشهد، جاء دور الطفلة العروس أمام الجميع يُنتظر منها الرد بالموافقة لكنها قالت «لا» وغادرت الكنيسة. ليبتهج الجميع وأدركوا لاحقاً أن ما حدث ابتداءً من عبارتها المنشورة على مدونتها ووصولاً بالتهيئة لمراسم الزواج في الكنيسة كان مجرد فكرة لاستفزاز المجتمع واستثارته ليلتفت لقضية مهمة ومؤلمة إنسانياً وهي تزويج الفتيات القاصرات اللاتي لم يبلغن عمر الثامنة عشرة، حيثُ تُعتبر مرحلة طفولة ولا يُطبق عليها ما على البالغين قانونياً، نجد هنا كيفية ذكية لصناعة الوعي المجتمعي من خلال إجراء واعٍ وهادف فوجدنا أن الاستفزاز تحول لأداة ووسيلة نافذة لتبيان واقع لقضية هي مُستفزة من الأساس، وهنا تصل التوعية لشريحة عريضة من المجتمعات المختلفة لفئة تواجه مصيراً مجهولاً وقاسياً دون أن يعي من حولهم بماهية هذه الحياة التي تخطف ملامح الطفولة من تفاصيل أيامهم وتزج بهم بعيداً. بكل تأكيد عندما تكون الأفكار خلَّاقة ولها بُعد إنساني يتناول القضيّة كحالة مجردة من تشخيص أو تمايز عرقي وما إلى ذلك من تصنيفات، فإنها تُحقق نجاحاً فعلياً وإيجابياً، فالضمير ينبغي أن يتوحد في نبضه وإحساسه بالحالات والقضايا الإنسانية، ليس ضرورياً أن نتشابه ونتفق في كل شيء لنختلف في توجهاتنا الفكرية وقناعاتنا دون أن يدفع بنا ذلك للهبوط بمستوى لغة التحاور والتبادل، كم من المسيء جداً أن تتحول ساحاتنا الحوارية بصورها المختلفة المباشرة والإلكترونية لمعركة نتفنن في سيحها لإبراز أسلحتنا في التراشق والتباغض والتحريض والتسقيط، وإشعال نار الفتن التي تأكل الأخضر واليابس في حالة سوداوية من غياب الرادع عن كل تلك التعديات التي لا تنهض بالشعوب والأوطان وبطبيعة الحال تساعد في إخراج أجيال لا تعتنق مسؤولية الكلمة الواعية.