منذ عهد السيد خروتشوف؛ لم يظهر مُزعج روسي للإدارة الأمريكية، بقدر السيد فلاديمير بوتين الذي وضع بلاده في مواجهة «صامتة» مع الولاياتالمتحدة. وعلى العكس من خروتشوف، الزعيم الشيوعيّ الصارخ، فإن بوتين يقدّم نفسه رأساً «رأسمالياً» صلباً، يرفض منطق الهزيمة التي سقط فيها أكبر حزب سياسي في العالم، ويُلاعب الغرب بقواعد اللعبة ذاتها التي يلعبها معها: لعبة الاقتصاد، والعسكرة، والديبلوماسية. ومن الواضح أن الموقف الروسي في مجلس الأمن بشأن الوضع اليمنيّ؛ كان نسخة قريبة جداً من موقفه في الشأن السوري. روسيا الاتحادية رفضت استخدام وصف «انقلاب» لما حدث في اليمن. ورفضت أيضاً وضع الأزمة اليمنية في الفصل السابع. ولا يبدو ذلك حبّاً في الحوثيين، بل ربما نكاية في الولاياتالمتحدة. بمعنى أن الوضع اليمني كان مربعاً من مربعات اللعبة الدولية، وعلى روسيا ألا تتركه ليضع الخصم الأمريكي بيدقاً من بيادقه فيه. وعلى هذا؛ فإن السيد بوتين يتقدم خطوة جديدة في مربعات السيد باراك أوباما والغرب معاً. وسبق هذا الموقف الديبلوماسي؛ موقف سياسي اقتصادي أمني استراتيجي قبل أيام. فالسيد بوتين ذهب إلى مصر على رأس فريق حكوميًّ رفيع، وأبرم حزمة اتفاقيات تخص الأمن الغذائي والطاقة الذرية وقائمة استثمارات روسية في قلب الشرق الأوسط. هذا يعني، أيضاً، أن رجل الكرملين يتقدم خطواتٍ واسعة في مربعات السيد أوباما. وآنياً على الأقل؛ يبدو السيسي أذكى من حلفاء مصر الفاترين، خاصة الولاياتالمتحدة التي لم تعد تُخفي إعراضها عنه. ولذلك بدا الرجلان وكأنهما يوجهان رسالة إلى الغرب، والولاياتالمتحدة على وجه خاص. بوتين لن يقبل بالموقع الذي يريده الغربُ له، موقع المهزوم في الحرب الباردة. لديه ما ينطحُ به خصومه، وفي مناطق نفوذهم التقليدية. والسيسي لن يُراهن، أكثر، على تسويف حلفائه غير المتحمسين لمصر بعد «إسقاط» ديموقراطية الإخوان المسلمين. السيسي في حاجة، أيضاً، إلى خبرات الروس في التعاطي مع الإرهاب المحسوب على الإسلاميين. ورجل الاستخبارات السابق، بوتين، لديه كثير من الملفات والنصائح، والخبراء والتقنية أيضاً. وبالمقابل؛ يقتنص الروس فرصة المربع الفارغ من الولاياتالمتحدة في مصر، فيضعون بيادقهم فيه علانيةً، ويستبعدون حتى الدولار في تعاملاتهم الآتية، ويستعيضون بالجنيه والروبل. وأقلّ ما يمكن توصيفه، هنا، هو أن الإزعاج الروسي لم يعد يشاغب عبر طهران ودمشق فحسب، بل وصل إلى قلب القاهرة، ويسعى إلى إقناع المصريين بأنه الأقرب إليهم من مِنّة الولاياتالمتحدة التي تمالئ فيها. وقبل الخطوة المصرية؛ كانت هناك الخطوة الإيرانية التي شهدت توقيع تسليم موسكولطهران صواريخ «إس 300»، وبعض التسريبات تقول إنها «إس 400». وهذا -في ذاته- رسالة أشدّ إزعاجاً للولايات المتحدة التي نجحت، منذ 2007، في تجميد تنفيذ هذه الاتفاقية. وبدا لها أن بوتين لم يعد يبالي بالبيت الأبيض، ولا تحفظاته، ولا قلقه من تسليح إيران. لم يعد يبالي حتى بالخاصرة الأوكرانية، ولا يقبل حتى نقاش موضوع جزر القرم. مقابل ذلك؛ لا يبدو الحظّ حليفاً للخصم الغربي. فالولاياتالمتحدة التي قادت حملاتٍ كوكبية ضدّ النووي الإيراني؛ هي -نفسها- التي تكاد ترجو الكونجرس وإسرائيل أن يصمتا الآن عن هذا الملفّ، حتى لا تتداخل الأوراق من جديد، ويجد الإيرانيون فرصة لإعادة تدوير المفاوضات..! وحكومة الديموقراطيين التي نادت ب «إسقاط الأسد» شخصياً؛ هي -بكامل وجوهها- التي «تنازلت» عن هذه الرغبة بصراحة، وتركت حاملي الشعار يردّدونه «على استحياء»، أو يصمتون عنه. وحين جلس كبار مجلس الأمن لبحث الشأن اليمني قبل يومين؛ فإنهم كانوا أمام فوبيا القاعدة وبناتها. ووقوف الدبّ الروسي إلى جانب القوة الحوثية وحلفائها؛ حال دون وصف ما حدث ب «الانقلاب»، كما حال دون وضع اليمن ضمن الفصل السابع الذي يضع قرارات مجلس الأمن حيّز التنفيذ.