هل شكل العام 2009 نقطة تحول في العلاقات الروسية - الإيرانية؟ تحديداً في الموقف الروسي حيال طهران وبرنامجها النووي وطموحاتها لتعزيز الآلة العسكرية وتطوير ذراعها الصاروخية التي غدت كما يقول البعض «أطول مما يجب»؟ سؤال طرح بقوة خلال الفترة الماضية، في أوساط الخبراء الروس، وسط غياب في وضوح الموقف الرسمي، وتعتيم شبه كامل على حقيقة العقود العسكرية الموقعة مع إيران ونيات موسكو حيال الالتزام بالمعلن منها. والسؤال له أسباب كثيرة أبرزها أن العلاقات بين البلدين تمر مع اقتراب العام من نهايته، في أسوأ حالاتها منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، وتدور أحاديث في الأروقة الديبلوماسية حول استعداد موسكو لدعم عقوبات دولية جديدة ومشددة ضد إيران بعدما «خاب ظن موسكو في الشريك الذي لم يمنح حلفاءه أي أوراق تعزز موقفهم لمواصلة الدفاع عنه أمام الغرب»، كما يقول ديبلوماسي مطلع اطلاعاً وثيقاً على ملف العلاقات بين البلدين. ويعتقد البعض أن المشكلة ليست عند طهران وحدها، فالأساس هو ظهور توجه روسي جديد يقوم على قناعة بأن الملف النووي الإيراني بتعقيداته وتشابكاته بات يعرقل تحقيق نقلة مطلوبة بالنسبة إلى الروس في العلاقة مع الولاياتالمتحدة والغرب عموماً، كما أن «التحالف» مع إيران غدا ثمنه باهظاً للروس في منطقة الفضاء السوفياتي السابق الذي يشهد تدريجاً تعزيزاً للوجود الغربي سياسياً وعسكرياً على حساب النفوذ الروسي. في الحالين يبدو أن علاقات موسكو مع الإيرانيين تتجه لدخول مرحلة جديدة، تراجعت فيها ولو إلى حين عبارات مثل «الشريك الاستراتيجي المهم جداً على الحدود الجنوبيةلروسيا»، وهو أمر أشار إليه أحد أبرز الخبراء في شؤون إيران، هو رجب صافاروف رئيس مركز دراسات إيران الذي اعتبر في حديث إلى «الحياة» أن الغرب نجح في «دق إسفين في العلاقات الروسية - الإيرانية». وبحسب الخبير، فإن تطورات الوضع حول إيران خلال الشهور الماضية، لا تبعث على الارتياح و «العلاقات الإيرانية - الروسية لا تمر في أفضل أوقاتها وهذا من العوامل التي أثرت على الصعيد العالمي في حل مشكلة الطاقة». وكمثال، أشار صافاروف إلى التطور الذي اعتبره كثرٌ الأهم في الموقف الروسي خلال العام المنصرم، والمقصود إعلان الرئيس ديمتري مدفيديف قبل نحو شهرين أنه لا يستبعد انضمام روسيا لفرض عقوبات جديدة ضد إيران إذا لم تعط المفاوضات النتيجة المناسبة. في روسيا وفي بلدان كثيرة يعتبرون هذا موقفاً جديداً لروسيا. اللافت أنه منذ أن عقدت أول قمة جمعت الرئيس ديمتري مدفيديف بالرئيس الأميركي باراك أوباما في منتصف العام تقريباً، بدا واضحاً أن ثمة تطوراً ما ينتظر العلاقات الروسية - الإيرانية. في تلك القمة، جاء أوباما بهدية ثمينة إلى الروس عندما أعلن تراجع بلاده عن نشر الدرع الصاروخية في شرق أوروبا، وتحدث مع سيد الكرملين ومع رئيس الوزراء القوي فلاديمر بوتين باللغة التي تهوى موسكو سماعها حول استعداد واشنطن لبناء علاقات ندية ومتكافئة تحفظ مصالح الطرفين. ويقول صافاروف إن أوباما في الواقع نجح في إقناع القادة الروس بالانضمام إلى التحالف الدولي المضاد لإيران. والثمن المقابل لا يقتصر على ملف «الدرع» وقضايا الأمن الاستراتيجي التي تبرز بينها مسألة التقليص الحاد لترسانتي البلدين من الأسلحة النووية، بل يمتد إلى المنطقة الحساسة جداً للروس، أي الفضاء السوفياتي السابق من دون أن يتضح تماماً ما إذا كان لدى البيت الأبيض ما يقدمه لموسكو على هذا الصعيد. وسرعان ما أثمرت المحادثات الروسية - الأميركية كما يؤكد صافاروف، إذ بات واضحاً أن موسكو اتجهت نحو تجميد صفقة لتزويد طهران أنظمة صاروخية متطورة من طراز (أس 300). واعتبر صافاروف أيضاً أن إعلان وزير الطاقة الروسي سيرغي شماتكو في الفترة ذاتها، حول التزام موسكو بتسليم مفاعل «بوشهر» الكهروذري إلى الإيرانيين في موعده المحدد، حمل بدوره مؤشرات إلى تغيير في الموقف الروسي حيال طهران، لأن هذا المشروع لم يكن مطروحاً في السابق بين ملفات التفاوض والبحث مع الأميركيين، ولم يتم التطرق إليه في لقاءات سابقة، ما يعني أن طرحه بهذه الطريقة يعكس «تغيراً خطراً في سلوك روسيا تجاه طهران». ويعتقد الخبير الروسي أن موقف موسكو جاء نتيجة حصولها على ضمانات أميركية بأن النسخة المعدلة من معاهدة الحد من الأسلحة الهجومية الإستراتيجية (ستارت 2) ستلبي المطالب الروسية وأن واشنطن لن تنشر أي شبكات دفاع صاروخية في أوروبا من دون التشاور مع الروس. كما تعهدت واشنطن عدم توجيه التطورات داخل أوكرانيا وجورجيا ضد المصلحة الروسية. لكن، هل حصلت موسكو بالفعل على الثمن المناسب؟ سؤال أجابت عنه بحسب صافاروف التطورات اللاحقة في النصف الثاني من عام 2009، وأظهر أن موسكو «باعت حليفتها بثمن بخس». إذ في وقت كان خبراء الولاياتالمتحدةوروسيا منشغلين في تسوية نقاط الخلاف، سارت واشنطن خطوات نحو نشر أنظمة مضادة للصواريخ في بولندا. وأعلن بعد ذلك عن توقيع اتفاقية دفاع مشتركة بين بولندا والولاياتالمتحدة، ثم أعلن عن نشر نظام صاروخي أميركي متطور في إسرائيل في شكل حمل «تجاوزاً لكل المعايير الدولية الهشة في الشرق الأوسط». في المقابل، لا تمتلك روسيا أي اتفاقات عسكرية في هذه المنطقة، ما يمكن أن يؤثر سلباً في الوضع الأمني العام في الشرق الأوسط وينعكس على الاستقرار والأمن الاستراتيجي في جنوبروسيا. واستعادت جورجيا القدرات الدفاعية بمساعدة من الولاياتالمتحدة. وهو أمر له حساسية خاصة عند موسكو التي تدافع عن جمهوريتي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا المنفصلتين عن جورجيا، ما يعني كما خلص الخبير ان موسكو «لم تحقق أي فوائد ملموسة حتى الآن على رغم أنها قدمت الكثير لواشنطن... ونجحت الولاياتالمتحدة في إفساد العلاقات الروسية مع إيران، بينما كانت إيران تحاول الدفاع عن حقها في البرنامج النووي السلمي، وللأسف انخرطت روسيا في جهود الغرب لقمع تطلعات إيران». ويعكس حديث صافاروف موقف شريحة واسعة من الديبلوماسيين والخبراء في روسيا، لكن في المقابل يصر فريق آخر على أن موسكو لم تذهب إلى أي مقايضات أو مساومات على الملف الإيراني وأن التراجع الحاصل في العلاقة مع طهران سببه التعنت الإيراني ذاته. وقال فلاديمير ساجين وهو من الخبراء البارزين في قضايا الأمن والدفاع إن الواقع أن الموقف الروسي لم يتغير تجاه إيران، بل على العكس من ذلك تبدل الموقف الإيراني ذاته حيال موسكو. وأشار الخبير في حديث إلى «الحياة» إلى أن مجلس الأمن أصدر خمسة قرارات تتعلق بإيران نصت ثلاثة منها على عقوبات وكلها حظيت بدعم موسكو. وأوضح أن روسيا لعبت على مدار خمس سنوات دور محامي الدفاع عن إيران وتحملت ضغوطاً كبرى من جانب الغرب، لكن مواقفها وطروحاتها لتسوية الملف ديبلوماسياً قوبلت بتعنت إيراني متزايد. وذكر ساجين أن موسكو اقترحت منذ فترة طويلة تأسيس شركة دولية للتخصيب تحفظ لطهران حقها في امتلاك دورة التخصيب كاملة مع رقابة دولية صارمة، لكن الإيرانيين رفضوا الفكرة الروسية التي نصت على أن يكون المركز في بلد أوروبي وليس على الأراضي الإيرانية. هذا الموقف شكل صدمة لموسكو التي ظنت أنها ستكون قادرة على إقناع الشريك الإيراني بوجهة نظرها. كما شكل الرفض الإيراني الأخير لفكرة إرسال 1200 كيلوغرام من اليورانيوم إلى روسيا لتخصيبها ثم تحويلها إلى فرنسا لإنتاج الوقود الذري صدمة جديدة، خصوصاً أن هذه كانت من وجهة نظر ديبلوماسيين روس «الفرصة الأخيرة للتسوية من دون خسائر» ولم تكتف إيران بالرفض بل سارت على طريق إحراج الشركاء في شكل أوسع عندما أعلن الرئيس محمود أحمدي نجاد عن نية إيران إقامة عشرة مراكز للتخصيب وزيادة عدد أجهزة الطرد المركزي الى 500 الف جهاز. تلك المواقف قادت إلى قناعة بأن «إيران تسعى إلى القفز عن الولاياتالمتحدةوروسيا في مشروعها النووي وهذا سبّب صدمة ثانية للكرملين». أما عن مسألة صادرات السلاح الروسي إلى إيران، فهذه، برأي الخبير الروسي، مسألة حساسة جداً لأنها ستؤدي إلى خلل في ميزان القوى القائم في الشرق الأوسط و «أفهمت إسرائيل موسكو صراحة بأنها ستوجه ضربة عسكرية ضد منشآت إيرانية إذا حصلت طهران على الصواريخ المتطورة»، في إشارة مباشرة إلى الزيارة السرية التي قام بها إلى موسكو رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو أواسط أيلول (سبتمبر) الماضي وتكتمت عليها موسكو قبل أن تعلن عنها تل أبيب. اللافت أن عدداً كبيراً من الخبراء الروس المهتمين بالشأن الإيراني يربطون بين عوامل تضافرت لتصل بالعلاقات الروسية - الأميركية إلى وضعها الحالي مع نهاية عام 2009. فالحديث الوارد عن «صفقة» روسية - أميركية محتملة ينسجم مع فكرة خيبة الأمل الروسية وأن موسكو باتت ترى أن العلاقة مع الشريك الإيراني «متعبة ومعقدة» وعلى رغم أن الأوساط الرسمية لا تشير مباشرة إلى مسؤولية القيادة الحالية في إيران عن الوضع الراهن، عبر أدائها الذي نجح في حشد موقف دولي ليس في مصلحة إيران. وبرأي دببلوماسي روسي فضّل عدم ذكر إسمه، فإن الوضع الداخلي في إيران بعد الانتخابات الرئاسية وتداعياتها وتنامي حركة الاحتجاج الشعبي دفعت القيادة الإيرانية إلى محاولة «تصدير الأزمة» إلى الخارج وزيادة التعنت حتى مع حلفاء طهران لإظهارها وحيدة في مواجهة عالم معاد، معتبراً أن التصرفات الإيرانية غدت «مؤذية بالنسبة إلى طهران وإلى حلفائها أيضاً».