بلغت الغرائزية الداعشية مستويات غير مسبوقة في الانهيار القيمي عندما تم إحراق الطيار الأردني معاذ الكساسبة في قفص، ظل يتلوى ويصرخ فيه حتى تفحم ولفظ أنفاسه الأخيرة. لا يبدو أن تنظيم الدولة الإسلامية وصل إلى قاع الانحطاط والإرهاب بعد، فلا يزال في جعبته وسائل كثيرة ليبرز هذه الغرائزية وتوزيعها على أشرطة الفيديو في مختلف أنحاء العالم وبتقنية متقدمة تعبر عن حرفنة القائمين على القطاع الإعلامي في الدولة الداعشية وطريقة تعاطيهم مع الإعلام البديل. وتثير العملية التي تم الإعلان عنها مساء الثلاثاء الماضي كثيراً من التساؤلات والتشكيك إزاء جدية المجتمع الدولي في القضاء على داعش. إن شرط القضاء على التنظيمات الإرهابية مثل داعش والنصرة والقاعدة، يتطلب قراراً سياسياً واضحاً من قبل دول المنطقة والعواصم الكبرى. فلا يمكن الاعتماد فقط على الجهد العسكري الخجول رغم أنه مطلوب لتقويض هذه التنظيمات ومحاصرتها كما جرى في عين العرب (كوباني) بسوريا، حيث تمكنت قوات البشمركة الكردية بمساعدة الطيران الدولي من طرد داعش منها ومن أجزاء من محيطها بعد أن تركها التنظيم خرائب تنعق فيها الغربان. المطلوب قرار سياسي يستند على احترام حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. فالدول التي تواجه اضطرابات وعدم استقرار هي الدول التي تغيب عنها التشريعات الجلية في هذه المجالات، ويزداد فيها الفساد المالي والإداري ويتفشى فيها الفقر والبطالة والمرض. وقد استغل تنظيم الدولة الإسلامية هذه المعطيات باعتبارها بيئة حاضنة ليزين للشباب أن الدولة القادمة ستقيم القسط والعدل وستبسط شريعة الله في الأرض التي تحتلها بدءاً من الموصل التي وقعت تحت قبضته في ساعات معدودة بسبب الخيانات وتردي الأوضاع وتهميش فئات واسعة من الشعب العراقي، وصولاً إلى المجتمعات المهمشة التي عبَّدت الطريق للتنظيم الإرهابي للاستيلاء على مزيد من المناطق ويتمدد بحثاً عن النفط والطاقة، حيث كانت كركوك الخطوة التالية للتنظيم بعد أن بسط سيطرته على مناطق شاسعة في سوريا، خصوصاً تلك التي تتمتع بثروات نفطية تغذي التنظيم بالمال والسلاح. داعش تنظيم واحد من مجموعة تنظيمات إرهابية تقوم على القتل وسفك الدماء. وقد تركزت في سوريا وتشطرت إلى مجموعات تقاتل بعضها بعضاً. وقد صدف أن سألت أحد أقطاب المعارضة السورية الكردية على هامش مؤتمر دولي، عن سبب التشرذم الحاصل في أوساط المعارضة، فكان جوابه مفاجئاً لي على الأقل: الممولون يرفضون توحيد الفصائل المعارضة!!. بمعنى، أن من يحرك تلك الجماعات الإرهابية يهدف إلى إشاعة أكبر قدر من الخراب والتدمير وقتل الناس. وهذا واضح في سوريا، حيث تتلقى الجماعات المسلحة الدعم المالي واللوجستي من دول عدة، بما فيها دول إقليمية تبحث عن سيطرتها على المنطقة بتدميرها ووضع مقدراتها تحت سطوة هذه العاصمة أو تلك. ينطلق تنظيم داعش في ممارسة أعمال القتل والإرهاب، بما فيها حرق الأحياء، من نصوص دينية ادعى بها. وقد وزع فتواه هذه على وسائل التواصل الاجتماعي ووجد بعض رجال الدين الذين يبررون له هذه الأفعال الشنيعة، حيث انتشرت في الأيام القليلة الماضية فتاوى ووجهات نظر تؤيد داعش فيما ذهب إليه. والتنظيم بتصويره عملية حرق الكساسبة، كان يريد توصيل رسالة مفادها أن فقه «القصاص» ليس له سقف مستنداً على سمل العيون والكي بالحديد وإحراق المرتدين التي وردت أخبارها في الصحائف القديمة، وبالتالي فإن مشايخ التنظيم يبحثون اليوم عن وسائل جديدة للتعذيب والقتل لفرض هيبة الدولة الفتية. هذه الهيبة ليست جديدة على المنطقة أيضاً. فشعار الأمن أولاً يحمل في طياته ممارسات عنيفة تتمدد من خلالها الدولة الأمنية وتصادر فيها الحقوق وتغرق البلاد التي تمارسها بالسلطة المطلقة وبالفساد الذي يبذر المال العام. وهنا لا يختلف القتل خارج القانون مثل التعذيب حتى الموت في السجون وإطلاق الرصاص الحي على الناس في الشوارع، عما يقوم به تنظيم داعش إلا من زاوية أن الدولة الأمنية تقوم بجرائمها سراً وفي الظلام بعيداً عن أعين الناس ويفلت أصحاب القرارات ومنفذوها من العقاب، بينما يتفاخر داعش بحز الرؤوس وحرق الأجساد وسحلها، وقد سبق للعرب وأن تباهت بحز الرؤوس ورفعها على أسنة الرماح تعبيراً عن النصر في المعركة وتقديم البشارة للوالي أو الخليفة. وهو ما يفعله داعش اليوم بزيادة أساليب أكثر بشاعة هدفها إثارة الرعب. قتل الكساسبة حرقاً هو جريمة ينبغي إدانتها واستنكارها من كل إنسان سوي له عقل وقيم إنسانية، وينطبق هذا التوصيف على القتل خارج القانون وممارسة التعذيب في السجون وقطع الأرزاق وغيرها من الممارسات التي تفرخ أمثال داعش في عديد من النظم العربية ودول العالم الثالث، وليس هناك من سبب واحد يدفع بهذا النوع من الإرهاب. لكن ورغم أن إعدام ساجدة الريشاوي وبعض الإرهابيين الذين هم في قبضة السلطات الأردنية قد يطفئ بعض الحسرة على قتل الكساسبة، إلا أنها لن تردع داعش عن البحث عن رهائن جديدة يمارس فيهم التنظيم مهمته ويسعى للحصول على الأموال مقابل الإفراج عنهم، خصوصاً إذا استمرت الحدود مفتوحة لعناصر التنظيم والتمويل كذلك.