شتان بين وطن نعيشه وأوطان نتعايش فيها ولطالما تغنَّى الشعراء بأوطانهم وسكب المحبون بلوعات الفراق مدامعهم. ومن يدرك قيمة الفراق عن الوطن سوى مهاجر ارتحل وأجبرته الظروف على ذلك فهو حين العودة له كمن يرتمي في أحضان الأم التي من رحمها خرج. وبما أن العلاقة وثيقة بين المواطن والوطن كان عليه حقاً أن يُغلغل هذا الشعور في وجدانه ويحمل مسؤوليته على عاتقه، فحب الوطن ليس ألحاناً ندندن بها في كل حين وأشعاراً تُحكى للعظمة والكبرياء، الوطن فداء بالنفس والمال والولد غير أن ما يحصل اليوم يمزق صفحة التاريخ ويمحو ما كان فيها من حبرٍ وورق. فما عاد هناك انتماء ولا قلبُ ينبض حباً له وأصبحت حفنة مال هي وطنه وكل آماله ولو مات دون ذلك، ومن هنا وهناك قصص تُروى ومغالطات تؤخذ في الحسبان من أبناء الوطن الذين لم يدركوا قيمته إلا بعد ما تذوقوا مرارة البعد عنه والذل خارجه، وكي يقدر الفرد وطنيته ويكون الوطن أهلاً لذلك كان لزاماً على الوطن والمواطن أن لاينفكا بإخلاصهما لبعضهما، وبذلك تعتدل كفتا الميزان لكل منهما، وبقدر ما يُعطي الإنسان لوطنه من إخلاص ووفاء سيعطي الوطن له كل التقدير والرفعة، وإلا نقص العدل وهُضمت حقوقه وتفشى الظلم والجور والحرمان وانعدمت الثقة بين الوطن والمواطن، ليصبح حينها المواطن كالابن العاق والوطن كالسبع إذا جاع أكل ابنه، حينها ستتكشف الأقنعة ويبارز كل واحد منهما الآخر من أجل الظفر بنفسه ولنفسه سيظفر حتى لو باع المواطن هويته وتخلَّى الوطن عن حميته، حينها سيعُلن عن وطنية مزيفة ووطن بلا مواطن.