نتحاشى كسعوديين عديداً من الأمور المتعلقة بالأمراض النفسية ويدخل عديد من الأشخاص باختلاف شخصياتهم وشرائحهم العيادات النفسية متخفين وقد أبلغني أحد الاستشاريين أن بعضهم يغيّر اسمه وقد يحلّف الطبيب ألا يفشي سره (سبحان الله) وكأنه جاء بعار أو جريمة وكأنه دخل إلى مرقص أو ناد ليلي، وهذا كله بسبب أن الثقافة المجتمعية في هذا الباب رجعية ناهيك عن لقافة مستشرية لدينا تحوِّل صاحب القلق إلى مجنون والمكتئب إلى معتوه وصاحب الأعصاب المتعبة إلى مشرد. سأتحدث اليوم عن مرض خفي قد يكون ظاهراً على محيا عديد منا ونقتنصه يومياً في وجوه العابرين في الشوارع والمنتظرين في المطارات والمراجعين في الدوائر الخدمية ونشاهده بكثرة في أوراق قضايا المجتمع القضائية ونجده أكثر في العقول الباطنة متى ما فتشنا عنه. حديثي عن الاكتئاب ولماذا نحن مكتئبون، ما سر الامتعاض على الوجوه وسبب التجهم المعلن على الملامح ودافع الغضب العارم في الأنفس التي تخرج عبر تنهيدات وعبرات محبوسة في الأنفاس؟. الاكتئاب لدينا معضلة مزمنة تبدأ من سنوات العمر الأولى حيث تنتقل إيحاءات الاكتئاب بين قطبي الأسرة إلى الطفل فيتشكل سلوكه لأن المشكلات لدينا مع الأسف تتم في حضرة الباكي وهو الطفل الذي ينشأ وسط الصراخ ويتربّى على الجدل دون عزله أو إنقاذه إلى مأمن خارج دائرة المعارك الأسرية ثم ينتقل للمدرسة كبيئة روتينية مخيفة هي الأخرى دون وجود مأمن له أو دراسة لحالته إن كان مكتئباً وإن تعب أو تضايق أو غاب تم الاتصال بأسرته التي تزيد معدل الاكتئاب لديه بمرحلة جديدة تنادي بالحزم وتجاهر بالإثم ضد الطفولة في الضرب والتأديب والتأنيب. في مدارسنا لا يوجد اختصاصيون نفسيون واجتماعيون حقيقيون هنالك مرشد طلابي يعمل بشكل تقليدي وقد يكون تخصصه علمياً فالمعلمون يتسابقون منذ زمن لنيل هذه الوظيفة كديكور فقط وبحثاً عن العلاوات والمزايا دون أن يكونوا متخصصين، المطلوب دورة عاجلة أو تزكية الأمر الذي جعل مدارسنا مملوءة بمشاريع اكتئاب تقتات على عقول الصغار وطلاب التعليم العام منذ البدايات دون أن يشعر أحد سواء من الأسر أو المعلمين بأهمية دراسة حالة أي طالب دراسة نفسية واجتماعية وسبر أغوار مشكلاته وليس عرضه على مرشد طلابي يرهقه بالأسئلة والتعليمات البائسة المكررة في كراسات الإرشاد الطلابي العتيقة وإن مرض عضوياً بسبب الاكتئاب نقلوه للوحدة الصحية التي تحوَّلت إلى تموينات مصغرة لتوزيع جرعات الحرارة والإنفلونزا والحمّى. مدارسنا مملوءة بالاكتئاب في كل المراحل وأتحدى أن مرشداً طلابياً وضع دراسة أو تصوراً عن حالات الاكتئاب في مدارسنا أو أن التربية والتعليم رأت ودرست تغيير حال أوضاع المرشدين الطلابيين ودراسة توفير اختصاصيين نفسيين واجتماعيين حقيقيين أو أنها رأت تزويد الوحدات المدرسية أو إدارات التعليم بمتخصصين في علم النفس الإكلينيكي والسلوكي أو أنها درست جوانب جنوح الطلاب وقضايا المخدرات والجرائم وربطها بواقع الاكتئاب الذي ينمو في المدارس بخفية دون تحرك أو علاج جذري لو حتى دراسة استقصائية للاكتئاب في المدارس وبالتالي فإن ذلك سيتطور مع الطالب موظفاً وربَّ أسرة وراشداً وحتى شيخاً كبيراً إن لم يتم تدارك الأمر ووضع أسس للعلاج. يكبر هذا المكتئب ويكبر معه الألم النفسي فيرتمي في الجريمة وعدم الرضا والحزن والبؤس فيتحوَّل إلى مشروع خذلان بدأ من المنزل وانصهر في مراحل التعليم العام وتبلور في الجامعة وبات مكتئباً مكتوباً موظفاً وراشداً وأباً وحتى جداً وإلى أن يموت وهو يعاقر الاكتئاب. الاكتئاب لدينا أزمة خفية وأزلية وملامح الاكتئاب جلية في أوجه العابرين وفي ملامح المارة، التجهم والغضب العارم على الوجوه يعكس ملمحاً أزلياً للاكتئاب يعيش بين ظهرانينا، يجب أن نعترف نحن شعب لا نجيد الضحك وإن ضحكنا ضحكنا بضحكات مكتوبة في أجهزة الجوال وأحياناً نستدر الضحك والابتسام في وجوه الآخرين فلا نجدها، وصلنا إلى درجة بائسة لتسوّل الفرح.. وبات الاكتئاب ملمحاً ثابتاً تماماً كميادين وشوارع المدن، ابتساماتنا مؤقتة نضيع كثيراً من الصدقات العابرة السهلة المجانية بابتسامات في وجوه بعضنا تثقل كفة ميزاننا الأخروي وترفع مستوى مناعتنا وتنتعش أجهزتنا النفسية وتعكس مفهوماً حيوياً وحضارياً عنا لدى الشعوب الأخرى، الاكتئاب هو اكتساب وعدوى تتفشى بيننا وعدو يفرض احتلاله على حياتنا، يكفينا قلق الشوارع والاختناق والبيروقراطية وظروف الحياة ومستلزماتها فلو ضحكنا لخففنا وطأة هذه المؤثرات وكسبنا حياة مطمئنة، الواجب أن نشيع روح الابتسامة وأن تعقد الندوات وحتى المؤتمرات لمناقشة ظاهرة الاكتئاب الأزلية لدينا وأن يكون هنالك اختصاصيون نفسيون في المدارس وفي جهات العمل وفي مراكز الأحياء والمحاكم والأندية ومؤسسات المجتمع المدني وألا نخجل من النقاش والعلاج والحلول.