هناك افتراض يقول: (إن رجل الأعمال الناجح كثيراً ما يكون قائداً سياسياً فاشلاً لأن عقله – لاعتبارات تجارية – يظل مرتبطاً بما هو كائن و قلبه يتطلع إلى تحقيق (ما يمكن أن يكون)، وإلى أن يتحوّل هذا الافتراض إلى حقيقة، فسنستعين به حيث لا نجد سواه، معتقدين أن رجال الأعمال أكثر حذراً من غيرهم، و لست أدري فيما إذا كان معالي وزير المالية الدكتور إبراهيم العساف تاجراً قبل أن يكون وزيراً، أم كان مواطناً عادياً ينتظر راتبه في نهاية كل شهر، و قد يضطر إلى أن يستدين بعد أسبوعين من الرواتب، غير أني متأكد أن الأمير الوليد بن طلال رجل أعمال ناجح، بدليل أنه يظهر في قائمة (الفور بس) كل عام، ومع أني لا أثق كثيراً بالنصائح حين تأتي من التجار، و أتعامل معها بحذر شديد لمعرفة ما وراءها، إلا أني هذه المرة أجدني أكثر قناعة بما جاء في خطاب الأمير الوليد بن طلال الموَّجَهِ إلى معالي وزير المالية، و الذي حوى تساؤلات في منتهى الأهمية والوضوح، والخطورة أيضاً، واعتمد على أرقام، ورُغم أن معظم المعلومات الواردة في ذلك الخطاب ليست بالجديدة، و لا بالمستعصية على الفهم، إلا أن الجِدَّةَ فيها هو أنها أتت من رجل لا يمكن التشكيك في وطنيته أو نَسْج التهم من حوله، كما أنه خبير في الاقتصاد، و إني أستغرب أن تروِّجَ وزارة المالية للزيادة في إيرادات الدولة على أنها آتية من كفاءة اقتصادية أو حسن إدارة منها، مع أنها تعود فقط إلى ارتفاع في أسعار النفط و زيادة في إنتاجه، بمعنى أنه لو أتى على رأس الوزارات ذات العلاقة كالمالية والاقتصاد والتخطيط والنفط أشخاص آخرون لحصلنا على نفس النتائج تقريباً، لا لأن العمل في هذه الوزارات يسير بشكل مؤسسي، و لكن لأن ميزانية الدولة تعتمد على النفط بنسبة 90%، و ليت وزارة المالية اكتفت باعتماد مبالغ ضخمة على مشاريع متعثرة غالباً، بل زادت في المصروفات بمقدار 245 مليار ريال!، و قد يعتقد بعض القُرَّاء أني أخطأت حين قلت( مليار)، غير أني متأكد من هذا الرقم، ولو لم يذكره شخص بحجم الوليد بن طلال لترددت ألف مرة قبل أن أغامر بذكره، فهل من المعقول أن يكون الخطأ بتقدير الإنفاق في ميزانية هذا العام بنسبة 28%؟!، و ليس لذلك من تفسير إلا أن يكون التخطيط لدينا في أدنى مراتب الكفاءة، أو أن احتياطات الدولة يتم التعامل معها بعشوائية، وهذا الإسراف في المصروفات هو ما أدّى إلى عجز في ميزانية هذا العام بمقدار 54 مليار ريال، وقد يكون هذا التساؤل هو أبرز ما أشار إليه الوليد في خطابه إلى معالي وزير المالية، و من المُفترَض أن يُجاب عليه، كما يجب أن تتدخل جهات رقابية أخرى كهيئة مكافحة الفساد لا تشكيكاً في وزارة المالية والعياذ بالله، و لكن من باب الشفافية والوضوح، و إذا لم تتساءل (نزاهة) عن مصير هذه المليارات، فمن الأفضل لها أن تحزم أمتعتها وتغادر، خصوصاً أن البلد يعيش وضعاً أمنياً متقدماً، ولا يوجد أدنى مبرر لهذا الحجم من المصروفات، كما أن الملك – حفظه الله – أوصى بترشيد الإنفاق، ولو أن وزارة المالية التزمت بالإنفاق المقرر لكان هناك فائض في ميزانية هذا العام بمقدار 191 مليار ريال، يمكن بموجبه شطب العجز في الميزانية القادمة (145 مليار ريال) وزيادة (46 مليار ريال)، أما كيف تحوَّل هذا الفائض إلى عجز بمقدار 54 مليار ريال، فتلك معجزة اقتصادية و شيفرة لا يقدر على فك رموزها إلا الجهات الرقابية!. أظن ولعلي أكون مخطئاً أن ليس هناك معنى لقول معالي وزير المالية: (إن المملكة ومنذ سنوات طويلة اتبعت سياسة مالية واضحة تسير عكس الدورات الاقتصادية)، فهذا القول جميل ويدعو للنشوة والانتفاش لكنه ليس منطقياً، و ليس له قيمة من الناحية الاقتصادية، وهو قد يصدُق في حال الدول المستوردة للنفط والمستفيدة من انخفاض أسعاره، أو تلك التي لديها تنويع في مصادر الدخل، لكنه على العكس تماماً في حال الدول المصدرة والمعتمدة كلياً على النفط كالسعودية، والمتضررة حتماً من انخفاض أسعار النفط إلى النصف تقريباً. وليس يُقَرُّ في الأذهانِ شيءٌ ... إذا احتاج النهارُ إلى دليل.