«إن رياح تساؤلاتي وحيرتي لم تُلقحها عندي فلسفة هذا وذاك. ولم تثرها من مباركها وسوسة الضلال والفجور، فرواحلي المسافرات بي إلى أعماق هذا الوجود، محاولة غير يائسة، في أن يكون لي في كل خطوة أخطوها على قدمي عقلي وروحي وفكري، مكان أسجد فيه وأصلّي صلاة العقل والوعي والروح، لا صلاة الشبح الذي يتحرك، وكل شيء فيه نائم، لم يستيقظ على المعنى العظيم لفريضة الصلاة». هذا النص من كتاب (حاطب ليل ضجر) للمفكّر الشيخ عبد العزيز التويجري، ذلك المثقف الأصيل لم يكن في كتاباته مساحيق تجميل تؤخذ من أسواق الآخرين، كما هو حال عبّاد الفكر الغربي من الكتّاب والمصنّفين. في هذا الكتاب، يدمج التويجري بين الذاتي والموضوعي برشاقة فريدة بدلا عن الاحتباس في زاوية واحدة، وهذا ما يميّز الأدباء وكتب الأدب عن كتب العلم التجريبي مثلاً، فالدمج بين الذات والموضوع يعطي للكاتب حرية أكبر لكي يتدخل متى شاء أن يتدخل دون استئذان ليدوّن خاطرة اعتراضية على قصة تاريخية أو فكرة علمية، فالعالِم في مجال الفيزياء – مثلاً – تراه حين يكتب، يقف بعيداً هناك ليدوّن ملاحظاته، ولو أدخل خواطره ومشاعره في مثل هذه الفنّ، لما اعتبر كتابه كتاب فيزياء محض. وأقول الأصيل لأنه المثقف السعودي النقيض لشخصية عبدالله القصيمي وفكره، فالقصيمي كان رهين الفلسفة الوجودية التي هبّت رياحها على العالم العربي، بعد خروجها من ألمانيا وفرنسا كنتيجة للشعور بالتشاؤم والخوف والضجر في أعطاف الحربين العالميتين، بينما بقي فكر التويجري مرتبطاً بالأرض التي ولد عليها وعاش طفولته وحياته كلها فيها. كتاب ( حاطب ليل ضجر) هو أول من لفت انتباهي إلى معنى المثل (لا تكن كحاطب الليل) فقد ذكر في مقدمة الكتاب أنه حرص ألا يكون كتلك الفئة من حاطبي الليل الذين تلتف الأفاعي على سيقانهم. هذا هو معنى المثل إذن. رحلة داخلية إلى باطن الروح ومحاولة لفهم الذات، الأمر الذي هو شأن البشر كلهم، رحّالة يكتب سيرته ويصف رحلته ليعيش معه القارئ تلك الرحلة وما تركت في نفس كاتبها من آثار عميقة، ووصف لهذا الكون الفاتن وللحياة، يأخذه المرحوم التويجري من حياته هو وسيرته هو، وفهم الكون يبدأ من فهم الذات، لذا يقول: «إنما أنا حرف من حروف هذا الكون العظيم». أما محتوى الكتاب، فيرى الأستاذ الفيلسوف د. زكي نجيب محمود رحمه الله عن كتاب (حاطب ليل ضجر) أنه نوع جديد ابتكره عبد العزيز التويجري لكتابة السيرة الذاتية، فكثير من الرجال العظماء كتبوا سيرهم بأنفسهم، إلا أن سيرة الشيخ التويجري قد جاءت بصورٍ جديدة على فن السِير لم تكن معروفة من قبل، وإن أسلوب التويجري في كتابة السيرة: «فريد متفرّد في طريقة اغترافه لخواطره من سابق خبرته إذ هو يوحي بالصدق الذي لا تصنُّع فيه ولا تكلف.. أكثر بكثير من كتّاب استرسلوا مع خواطرهم». وهنا منبع قوة شخصية الشيخ التويجري: الصدق والشفافية.