مع تغير وسائل استقبال المعلومة تغيرت أساليب وشكل الرقابة، ولكن الرقيب لايزل قابعا في مكانه لا يبارحه. صحيح أن اسمه تغير من رقيب إلى حاجب واستبدل بمقصه القديم مقصا مختلفا (الجدار الناري أو البروكسي)، وبدلا من عدم السماح للكتاب أو المجلة بعبور الحدود، أمست عبارة (عفوا، الموقع المطلوب غير متاح) هي الرسالة التي يبعثها الرقيب ليذكرك بأنك لست مؤهلا بعد لأن تنطلق في رحاب الشبكة العنكبوتية تقرأ أو تشاهد ما تريد، وبأن الحاجب القابع خلف حاسوبه المتطور والسريع جداً هو الأعلم، وأنك مهما بلغت من العلم والمعرفة فهو من يقرر لك ما هو مسموح وماهو محظور. هذا النوع من الوصاية لا يختلف في جوهره عن تلك القوائم «السوداء» التي كان الرقيب يسطرها بأسماء الكتب والكتاب «المارقين والخطرين» على القراء. ومثلما كان يُبدع في تجاوز تلك القوائم، باللجوء إلى الرمزية كما في الأعمال الأدبية والفنية، أو باستخدام الأسماء المستعارة، أو بتخطي الحواجز الجغرافية إلى مكان لا تصله يد الرقيب المحلي، يتم الآن ومن دون حاجة لتجاوز الجغرافيا استخدام التكنولوجيا التي تخترق الجدار الناري وتشرع أبواب المواقع المحجوبة. إذا كلا الطرفين، الحاجب والمحجوب عليه، في سباق، أيهما يحقق الفوز ويهزم الآخر؟ فالصراع من أجل حرية التعبير ليس أمراً جديداً، بل هو قديم بقدم الرقابة نفسها، لقد عرفتها اليونان القديمة (الإغريق)، فعندما أُجبر سقراط على تناول السم لإنهاء حياته، إنما كان وسيلة الرقابة لإخفاء أفكاره المتمردة. كما عرفها المصريون القدماء (الفراعنة)، وعرف قيمتها العرب، فحينما انفتحوا على الشعوب الأخرى، وقل الإصغاء إلى الرقيب، ازدهرت لديهم الترجمة وتعرفوا على العلوم الطبيعية والفلسفة، ثم أبدعوا فيها. وحينما هيمنت عقلية الحظر والتحريم تراجع عطاؤهم وإبداعهم الفكري، وخسروا مواقعهم بين مبدعي العالم. وقد برز هذا الصراع بوضوح في أوروبا إبان القرون الوسطى حيث كان بطش الكنيسة الكاثوليكية شديداً أمام كل من يشكك في المفاهيم الفكرية والعقدية السائدة آنذاك، والمحمية من رجال الكهنوت الكنسيين. وهنا ينطرح السؤال: إلى ماذا آل هذا الصراع؟ ومن فاز في هذا السباق؟ لقد انتصرت أوروبا الحرية، ولم ينته القرن العشرين إلا والرقابة الكنسية تم دحرها، وسقط جدار برلين هاويا برمزيته السياسية والحقوقية. وأمست بعض بلدان أوروبا تتصدر العالم في التمسك بحرية الفكر والتعبير، جاعلة أمر الرقابة أخر ما تفكر فيه الحكومات المنتخبة. إذا التاريخ يُعلمنا أن الفائزين في هذا السباق ليسوا من تمسكوا بنهج الانغلاق واستمروا في محاربة الحريات المدنية، بل هم من كانوا قادرين على استيعاب سنن التغيير والانطلاق بالمجتمع نحو مزيد من حرية الرأي والفكر والتعبير والتخلي عن سياسة الحجب والوصاية التي لم تعد الشعوب تقبل بها، بل تجد فيها استنقاصا لها ولمفكريها، وانتهاكا لحقهم في الوصول إلى مصادر المعرفة دون حواجز أو ترخيص من أحد. لقد آن الآوان لا لتغيير وجه الرقيب بل إلى نهج جديد بلا رقيب.