إذا كان توصيف شعرنا القديم أنه غنائي، من حيث ملامسته لهموم الفرد الذاتية؛ فإن الشعر الحديث جفل عن ذلك، وانكب في عناية ظاهرة على المبادرات الموضوعية تلمساً للحيادية ونزوعاً من الغنائية المكرورة. عليه فقد تمظهرت استقلالية منشودة في الشعر الحديث ملبية ميولات تعبيرية لتجارب متكئة على موضوعية الحكاية المحتملة بين ثناياها رؤى فكرية وصراعات درامية للمكابدات والملابسات من المعاش اليومي. وأصبح الإنتاج الشعري الحديث فسحة للأداء التجريبي، وسعياً دؤوباً للتجدد الإبداعي. فنكصت فردانية التعامل النصي إنتاجاً عن الانغلاقية الذاتية، وتراجعت عن انكفاء الوجداني ومحدوديته، وحتمت تقنيات مستجدة انفراجاً للنص الذاتي، كل ذلك تفلتاً من حصار غيتو الغنائية. فبات من المؤكد ملامسة نصوص اتخذت الأحداث ورداتها مسارب جديدة. ولا تسجل الحكاية كالغنائية تامة للشعر الوجداني، ولا يعد في ذات الوقت نشوة انتصار للسرد على حساب الشعر. وإنما يجيء رحابة للغنائية في ظل تهتك الفواصل المتوهمة للجنسوية الأدبية. واعتمدت النصوص الشعرية الحديثة في توظيفها الحكاية على تعددية الأصوات، وعلى تباين الضمائر في ظل اختفاء محتم من مركزية ذواتها القائلة. وفي ظل امتثال قائلها بمقدار متعين ومطلوب من الحيادية والموضوعية، تاركة بذلك مساحات نصية لاعتمالات الضمائر المتعددة ولصراعات الأصوات المختلفة داخل النص الشعري كاستجابة سريعة لمتطلبات ظرفية لم يكن الشعر عاشها في ماضيه. ووفاء لكثافة التعقيدات الآنية وتشابكها خصوصاً أن القصيدة الغنائية ظلت متقوقعة بذاتيتها. وأمست الغنائية أداء نمطياً مطروقاً، وأشكالاً صورية معهودة في حين أن الواقع الآني للحياة يظل صادماً للرؤى المتأبية للتخندق الذاتي. فيقسو المعاش اليومي على رهافة الشعور، وربما يحجب نبل الأحاسيس وتقدمها. فيواجه المبدع بفظاظة تهمش مثاليته فهوعادة في حاجة مستديمة وإلحاح متواصل لإعلان خطابات تتجلى فيها رؤاه ولا تغيب ومن ذلك «مواقد الرمل» المستجيب لنداء المكابدات اليومية باعتبارها كوامن نصية والتي سيؤدي اختلال توازنها إلى انكسارات مقلصة بعده روح الإبداع أو ربما مفضية إلى تصاعد حمى التنافس. وعندئذ تأخذ طابعها من التحدي إلى صراع. «تدور رحى الحرب، تعرك، تعجن، تعصر ترمد تلفظ كل البقايا بصدر الطريق من الشرق إلى الغرب للشرق أخرى يصير دمار حصار براكين تنفث أنفاسها فتعشى العيون وتربض كل القلوب ويبني الخراب أعشاشه وينتظر الوقت...» فهنا لا نكاد نلمس ذاتية الشاعر متمظهرة في نصه بصفته منتجاً للنص، في أدناه بصورة مباشرة، بل يبقي وجهة نظره مستترة. مع علمنا بأنه يعبرعن رؤاه تجاه واقعه، ولكن لا تتجلى، وإنما التمظهر للضمائر المتلونة. فالظهور ابتداء لسارد النص يعقبه للآخر الغائب من خلال سرد الأحداث وترك المساحات النصية بتقنين والتزام اقتضاء للحيادية. ومن هنا تمايز النص بدراميته المبتناة على التعددية الصوتية في ثنائيات من التضاد تبعاً لتناقضاتها وتلونها. ويستتبع ذلك تطور كلي للنص الذي يرمق إلى إظهار المشاعر المصطرعة انسياقاً لتنامي النص وانفعالية الحالة الشعرية. ويبقى منتج النص متدثراً في مركزيته وعلى حراك متواصل ودائم ضبطاً لإيقاعات الأصوات حضوراً وغياباً. ويبقى مستوجباً الحذر استبقاء لخصوصية مشاعره وأحاسيسه، واضعاً إياها متسربلة في إطارها الخارجي ضمن الحدود المقننة. وعليه تأتي الأسطر التالية كمساحة نصية مقدرة للآخر «ينتظر الوقت يحتج يقلب كل الورقات يقرأ عكساً وطرداً ونقطة من أول السطر باء ألف وما يختلف تثاءب ثغر الغروب تمطط ينزٌ الظلام بكعب ثقيل يدوس رقاب الضياء ويدعك بالصدر كل المواطئ يثور هياجاً ويكسح ما يلتقيه ويمحو سطور الكتاب الجديد»؟ فالأفعال الغيرية هنا للآخر مبتناة على بنية حدثية يائية والتعابير مليئة بحيوية تفاصيلها. والاعتماد هنا على تشكيلات من الصور المقترنة واقعياً، ولكنها سريعة اللمح، مخزونة بالإبهار، مشبعة بالتخفي. وتسهيل الصور واقترابها مردود إلى منبع التركيز على اليومي. ولا يعني تبسيطها ابتذالها. بل على المعكوس من ذلك، فهي مترعة بحمولتها الإيحائية والدلالية، متشربة ومرتوية برمزيتها. وفي هكذا نصوص يكون التكثيف والتركيب الموجز مؤسساً على المفارقات التنافسية، وعلى تباين تلوينات الأفكار، وعلى التصوير ذي المنحى المتنقل والمترحل، وعلى ما يحمله المعاش اليومي من شحن صوري، وتسجيلات تفصيلية، وتوثيقات حياتية، وعلى الجزئيات المغفلة التي قد تكون غير ذات أهمية ابتداء ولكنها ذات وقع إشاري، وذات مغزى مستقصد عبر نسجها في تشكيل عمومي، وعبر تركيبها في افتراق كلي وشمولي، أو عبر انتخاب تكاملي وملتحم برؤية إشرافية من علو ومتفحصة واقعها ومدققة بجدية في استلقاط أهم مكونات الموقف المعبر عنه وأقله دقة، مختارة ما يمثله ذلك الواقع من تفريعات محسوسة أو متناهية. وهي غالباً، بل من المؤكد، ليست مكونات متوهمة، وليست أفكاراً مجردة، أو رؤى مستبعدة. إن في تنامي النص انفعالاً وتوتره إظهاراً لتباين التناقضات سلباً وإيجاباً. فالمقطع التالي يبلور الأنا السارد «... كتبت في الرمل / بيان احتجاج وكانت سطوراً كنقش غريب أخط وأمسح أرسم صورة جسم غريب بنقش عجيب تشجرت في حافة النهر...». ومطلب تعددية الأصوات يشترط فيها اختفاء القائل في حيادية «مطلقة» وفي موضوعية «نزيهة» ولكن مهما تصانع القائل وتلبس بحياديته، ومهما تدارأت ذاته خلف ستائر الضمائر المختلفة، ومهما أجاد في الاحتجاب إلا أن حضوره المعمى يظل فاعلاً في النص، فهو الغائب الحاضر على السواء، وبذلك ليس من التفاجؤ انكشاف وجهة نظر الشاعر ختاماً «تسير كما شاء أو شئت أو شاء آخر/ تكون المحصلة في ما يقول ولا شيء يقبل إلا هو/ تجمد تحت لحاف الزمان ونام فوق رصيف الدهور كوابيس أحلامه تموج». ولذلك جاء هذا التختيم الممتد أفقياً، وبتعمد واستقصاد، على سبيل التسطح الغنائي المسترسل بعد حيادية النص المسبقة.