في تاريخ الحروب الصليبية، كان بين الناصر صلاح الدين الأيوبي وريتشارد قلب الأسد مراسلات عديدة، منها رسالة الأخير للأول كتب فيها: «إنني راغب في مودتك وصداقتك، وإنني لا أريد أن أكون فرعوناً يملك الأرض، ولا أظن ذلك فيك، ولا يجوز لك أن تُهلك المسلمين كلهم، ولا يجوز لي أن أهلك الفرنج كلهم. وهذا ابن اختي قد ملّكته هذه الديار وسلمته إليك يكون هو وعسكره بحكمك، ولو استدعيتهم إلى الشرق سمعوا وأطاعوا. إن جماعة من الرهبان والمنقطعين قد طلبوا منك كنائس فما بخلت عليهم بها، وأنا أطلب منك كنيسة…» فما كان من صلاح الدين إلا أن ردّ عليه: «إنك إذا دخلت معنا هذا الدخول فما جزاء الإحسان إلا الإحسان، ابن أختك يكون عندي كبعض أولادي، وسيبلغك ما أفعل في حقه من الخير، وأنا أعطيك أكبر الكنائس وهي القيامة…» ولما أُصيب قلب الأسد في إحدى المعارك أرسل صلاح الدين طبيبه الخاص ليعالجه. وعندما سقط حصانه في معركة يافا أرسل له حصانين بدلاً عنه. رغم العداء، والحرب، والقتل، ورغم كل شيء، تجرّد صلاح الدين من الحقد والضغينة وغَلّب إنسانيته على مصالحه. انتهت الحروب الصليبية في المنطقة منذ قرون، إلا الحروب الكلامية اليوم تعيد اجترار تلك المآسي القديمة، ولكن بطريقة أخرى. ألّف كتاباً، أو اكتب مقالاً، أو انشر تغريدة مقتضبة تعبر فيها عن رأيك وسينهال عليك ألفُ شاتمٍ ومُكفّر، حتى لأظن أحياناً أن حرية التعبير عن الرأي تبدو عند بعض الناس أكبر جُرْماً من اقتحام المسجد الأقصى وقتل الأطفال والأبرياء! دعونا نعترف: نحن لا نعرف كيف نختلف. بل في الحقيقة نحن لا نختلف، بل نتصارع، نضع الشتم والإهانة مكان السيّف (قديماً) ولا نرعى «قواعد الاشتباك» التي تلتزم بها الجيوش عندما تخوض حرباً. ندّعي أننا ندافع عن مبادئ معينة، ولكن بعنف شديد، ولغة بذيئة، وفكرٍ مُنغلقٍ، إقصائي، لا يرى خيراً في الطرف الآخر، ولا يُقدم حُسن الظن على سيّئه. إن ألفاظ المرء تدلك على عقليته. اقرأ ما يُكتب وستجد ألفاظاً مُزعجة، مُتطرفّة، تتمنى الدمار والموت للآخر، هكذا مباشرة. هناك فرق كبير عندما أقول لك: «أنت مخطئ» وعندما أقول لك: «أنت جاهل غبي تُريد إفساد المجتمع». قد تدفع الجملة الأولى خصمك للتفكير قليلاً، لكن الثانية ستُحيل الخصومة إلى حرب طاحنة، لا يسلم منها العِرْضُ، والنيّة، والمروءة. كُنتُ سأكتب: «لا أدري لماذا نحن متطرفون هكذا؟» لكنني أدري؛ لأننا لا نقرأ! وعندما أقول لا نقرأ فأنا لا أعني أننا لا نفتح كتاباً، بل أعني أن كثيراً منا عندما يقرأون فإنهم يقرأون الأفكار نفسها، يُكررون الأمثال نفسها، ويقحمون الأقوال والنظريات نفسها في كلامهم وكتاباتهم. نحن نخشى أن نقرأ للمختلف ونسميه «مبتدعاً» دون أن ندري ما تهمته، المهم أنه لا يناسبنا. يقول أحد الكُتّاب المعروفين في المنطقة إن بعض رجال الدين كانوا يصفونه بالليبرالي وبالكافر، في الوقت الذي كان يُصلّي فيه الفجر مع ابنه في المسجد! لكن هذا ليس غريباً، فعندما نُربي أبناءنا وبناتنا على أنهم يملكون الحقيقة الكاملة، وأنهم على صواب والعالم كله على خطأ، فليس غريباً أن يكبروا أُحاديي الفِكْر، ظلاميي البصيرة، لا يرون إلا ما قيل لهم، ولا يشعرون بالحاجة للبحث والتفكر والتساؤل. لم نُرّبهم على إمكانية أنهم قد يكونون على صواب ويكون الآخر على صواب أيضاً. لم نُعلّمهم أن الله وحده الذي يعلم من سيدخل الجنة ومن سيدخل النار. لم نُفّهمهم أن الحُكم على الآخر هو عمل لا يحق إلا لله وحده عزّ وجلّ.. ولم نقل لهم تريّثوا قبل أن ينطح بعضكم بعضاً، لأننا لم نفهم، حتى الآن، أن اختلافنا مع أحدهم لا يستوجب كرهنا له. يُحكى أن أستاذاً طلب من تلميذ عنده، وكان أحولَ العينين، أن يأتيه بزجاجة كانت موجودة في الغرفة المجاورة، فقال التلميذ: «أي الزجاجتين تريد؟» فقال له الأستاذ لا توجد إلا زجاجة واحدة، إلا أن التلميذ رفض رُغم محاولة الأستاذ إقناعه، حتى انتابه الغضب ظناً منه أن أستاذه كان يهزأ به. وعندما رأى الأستاذ أن الغضب قد تملك من تلميذه قال له: «اكسر إحدى الزجاجتين وائتني بالأخرى». تناول التلميذ الزجاجة بيده ورماها على الأرض فاختفت الزجاجتان. كثيرون بيننا كذلك التلميذ، يسيئون النيات ويظنون العالم كلّه يتآمر عليهم أو على مجتمعهم، ولا يُدركون أن العالم لا يأبه بهم؛ إنه مشغول باكتشاف الكواكب، واختراع عقارات طبية للأمراض الخبيثة، ومنهمكٌ في صناعة أجهزة جديدة يستخدمها لنشر المعرفة، ويستخدمونها هم لنشر الجهل.