في هذهِ الأيام الموجعة، حيث يتردد ذكر الأحساء بعد فجيعة الوطن بشهدائها، تذكرت أحد أيام دراستي في جامعة الملك فيصل، حين استدعتني عمادة الجامعة من أجل التواصل مع أحد أعضاء اللجنة التعليمية بالتنسيق مع العمادة، وذلك بعد انقضاء فصلٍ دراسيّ علّمني فيه كتربوي مُحترف. اتصلت به على مكتبه أكثر من مرة فلم أجده، احترت حينها، فماذا يُريد أن يقول الدكتور لي بعد أن أنهيت المادة معه، وانقضى الأمر بنجاح، و.. و.. و..؟ كنت أعرف أن العمر يمضي بأسئلة كثيرة لا نُفلح في الإجابة عن أغلبها. لكن حين أبلغتني زميلاتي مرة أخرى بأن تلك الورقة عادت لتجوب أروقة الجامعة حاملةً اسمي، تواصلت مع العمادة مرة أخرى، كنت مُندهشة حينها لهذا الإلحاح على التواصل معه، إلى أن كانت تلك المكالمة التي استمرت ساعة من الوقت، بدأها بالسؤال عن توقعاتي لما يريد أن يُخبرني إياه، فأجبت، لكنه لم يؤكد ولم ينفِ إجابتي، بل راح يُحدثني عن التفوق الأكاديمي، ودور الإنسان المُتعلم، واستدعى رموزاً من علماء المسلمين، علماء سطع نجمهم من خلال جهودهم النورانية في إزالة كسف الظلام الطائفي. من جملة ما قاله حينها: «أنا سني، وزوجتي شيعية، وابني شيعي، وابنتي سنية»، كان يختصر الوطن في عائلته!! أذكر حكايتي هذه مع معلمي الأحسائي الفاضل اليوم، حيث لم تعد حكايتي وحدي، بل هي حكاية الوطن المُشتهى، وطنٌ يُعيد ضبط البوصلة نحوه، وطنٌ يُجرّم بالقانون أي قولٍ أو فعلٍ طائفي، وطنٌ يُغلق كل فوَّهات الحقد، تلك التي ما إن يُضغط على زنادها فإنها تقتلنا جميعاً. ولأن النية مكانها القلب لا ساحات «تويتر»، ولأن ترجمانها هو الواقع، وجب على كل ذي نيةٍ حسنة أن يُرينا تُرجمانه من موقعه الإنساني، لا من حسابه الإلكتروني، موقعه في أسرته، وفي عمله، وأين ما حلّ. لأنه لا تفوق يعلو فوق إنسانيتنا مهما بلغ، ولا جمال كجمال التآخي في الاختلاف، ذلك ما أراد أن يتأكد منه مُعلمي حينها، ويحفره في مكانٍ عميق من الروح والفكر، فتباً لأولئك الذين يقبّحون بحقدهم وجه الأرض، ولتأخذوا حذركم أيها الأحبة، ولتغسلوا قلوبكم بماء الحكمة العَطِرة.