من يكشف المرض هنا هم الآباء قبل الأطباء. ولعل نعمة التواصل الاجتماعي لايدركها المرء حتى يواجه حالة الأوتزم (التوحد). قصة هذا المرض تعود إلى خمسينيات القرن الفائت، إلى حالة عجيبة شخصها لأول مرة الدكتور ليو كانر (Leo Canner) لمريض يدعى تريبلت (Triplett) مازال حياً حتى اليوم، يسعى برجليه إلى ملعب الجولف في المسيسيبي، فيلعق أصابعه عديداً من المرات. ثم يلوح بمقبض التنس إلى الأعلى. يكرر العمل عديداً من المرات، قبل أن يضرب الكرة، ليلحقها بمفاصل جامدة غير مرنة. هذه القصة نشرتها قبل4 سنوات مجلة (الأتلانتيك) فعرف الناس قصة الأوتزم من بداياته. كل والد ووالدة عليهما أن يحدِّقا في طفلهما جيداً، ليشخِّصا المرض قبل فوات الأوان عند الشهر 18 من العمر، هل ينظر بعينيه؟ هل يضحك لمن يضحك له؟ هل يتجاوب أم أنه يعيش عالمه الخاص؟ قصة (تريبلت) كانت الحالة الأولى التي وصفها الدكتور (كانر) تحت الحالة رقم واحد (Case 1) كان ذلك عام 1943م، ومن اللافت للنظر في القصة هو مافعله الوالد؛ فقد كتب تقريراً تفصيليَّاً، عن تصرفات ولده، يصف فيها كل التظاهرات المرضية في 33 صفحة بخط اليد. (فقدان التواصل الاجتماعي اضطراب العواطف ومشكلات بالاتصال سلوك مكرر على شكل رتيب واحد غير هادف بدون معنى ) ومنذ ذلك الوقت صار شائعاً أن الوالدين هما أول من ينتبه إلى نوعية ابنهما الخاصة، أنه يعيش في عالمه الخاص، ويقترب منه مرض أسبرجر (Asperger) وهو أيضاً مرض أو انحراف خاص عند الأطفال، ميَّز كثيراً من العباقرة، كما هو الحال في آينشتاين، وربما كيلفن ونيوتن، بعزلتهم عن العالم المحيط بهم، وغرقهم في عالمهم الخاص. ومما يجب لفت النظر له أن هذا المرض (ارتدادي) بمعنى أنه ليس مرضاً إن صح التعبير يبدأ مع (لحظات الطفل الأولى) وهو يستقبل الحياة وكأنه قدر وراثي؟، بل قد ينشأ الطفل على أفضل حال مثل كل الأطفال، ثم وفي لحظة ما عند سنتين ونصف من عمر الطفل مثلاً، كما حصل مع عائلة رون سوزكيند (Ron Susskind) فانكفأ الطفل على وجهه، وخسر اللغة التي بدأها. يقول والد الطفل الذي نشر كتاباً بكامل القصة بعنوان الحياة بالكارتون قصة الطفل كممثل جانبي الأبطال والتوحد، ونشرته دار كينجز ويل ب 358 صفحة بسعر 27 دولاراً، (Life animated, A story of sidekicks, Heroes and Autism) ولاقى رواجاً كبيراً ليصبح من أفضل الكتب مبيعاً في العالم. وأهمية ما جاء في قصة طفلهم أوين (Owen) الذي بلغ حالياً 23 عاماً، أنه رجع فاسترد اللغة بطريقة لاتخطر في بال إنس ولا جان. فالوالد الذي هو صحفي مرموق ونال جائزة بوليتزر (Pulitzer) للصحافة، كان في شغل شاغل أثناء انتقاله من بوسطن إلى شيكاغو، ويعرف ابنه جيداً؛ فقد سجّل معه أفلاماً عن لعب مشترك بالسيوف يغلب الطفل أباه، كما بدأ في النطق بطريقة نظامية من دمج 3 كلمات لتكون جملة. كل هذا وأكثر حصل لتبدأ اللغة عند الطفل فجأة بالانكماش تدريجيَّاً فلا تنتهي وخلال شهر واحد إلا بكلمة واحدة يكررها الطفل بدون معنى : عصير … عصير .. (Juice)؟؟ ارتاع الأب فلم يبق طبيب أطفال إلا وعرضه عليه وأنفق 90 ألف دولار في السنة الأولى من الإصابة لفك السحر. ومن فك السحر أخيراً لم يكن كل رهط الأطباء وفطاحلتهم؟ بل فيلم ديزني الذي كان يكرره الطفل بدون ملل فانطلق لسانه فنطق ويده فرسم وكتب، ولله في خلقه شؤون، وهذا يفتح الأمل لكثير من العائلات التي أصيبت بهذا الضرب من الأمراض.