قمت بالتغريدة التالية الأسبوع الفائت «صديقي الدنماركي ضاع جوازه في روما يوم الأحد. قطع القنصل الدنماركي عطلته وجاء له في الفندق وأصدر له جوازا في ردهة الفندق…..» انتهى. ولأن عدد الحروف في التغريدة الواحدة يجب أن لا تتجاوز ال 140 حرفاً، فلم أستطع إكمال القصة أو إلحاقها بتغريدة أخرى. لم تمر التغريدة بسلام ولم يتم هضمها بسهولة وإنما كان نصيبها تدافع غير مسبوق، وسيل من التعليقات التي أوصلتني إلى نتيجة واحدة مفادها، أننا نشكك في كل شيء ويستحيل علينا تصديق وتفسير سلوكيات الآخرين الحضارية. فقد أنهيت جولة في الأسبوع المنصرم لدراسة أخلاقيات وسلوكيات بعض البلدان الإسكندنافية (السويد والدنمارك وكذلك فنلندا، علما بأن الدول الإسكندنافية تشمل كذلك النرويج وآيسلندا ومن الخطأ اعتبار فنلندا إسكندنافية). هذه الدول كان يطلق عليها بلاد الفايكنج (أو شعوب الخلجان) الذين تسببوا في أذى كبير للقارة الأوروبية قبل ألف سنة تقريبا، فدمّروا الزرع والضرع وأحرقوا كل شيء فسبحان مقلب الأحوال! أثناء زيارتي، كنت أقيس بعض التجارب وأحاول استلهام الماضي والاستفادة من الدروس، فنحن أمة يفترض فيها أن تكون من أرقى الأمم أخلاقيا وسلوكيا «كنتم خير أمة أخرجت للناس» وقال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلّم «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق». وحيث أن «الحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق الناس بها»، فقد آليت على نفسي إلا أن أنقل بعض التجارب للاستفادة وليس للمقارنة السلبية البئيسة. أستطيع في معرض حديثي هذا استعراض مواقف شتى وأمثلة كثيرة ولكن ليس هذا المقصد فقد رأيت هناك مسلمين ولم أر إسلاما. رأيت أخلاق الإسلام متجذرة في هذه الشعوب وكلهم متشرب لهذه المعاني النبيلة. ويالها من مفارقة، فالشعوب العربية التي هاجرت لهذه البلدان وتجنست بجنسيات أهلها وتم إكرامها ودمجها، لا تزال تنقل خلافاتها لهذه الدول المتميزة وتعيش يومياتها بنفس الثقافة الكئيبة التي تسود حاضرنا العربي، ولم يندمجوا الإندماج الحضاري المطلوب، وإنما استفادوا من الخدمات المتوافرة والرقي الإنساني دون أن يفيدوا مجتمعاتهم الجديدة (طبعا هذا ليس على سبيل التعميم). فثقافة اللف والدوران تعتبر من أشد الجرائم التي يرتكبها الإسكندنافي، فهي في عرفهم محرمة ويتم إدخال مقترفيها قائمة ذل سوداء لا يخرجوا منها مدى الحياة! أما الجمعيات الخيرية والإنسانية التي تدعم العالم العربي والإسلامي في محنه الحاضرة، فيتم الصرف عليها وعلى موظفيها بالكامل من قبل هذه الدول دون تفرقة أو تمييز وشعارهم في ذلك «دعم الأعمال المستدامة لخدمة الإنسان». وبالمناسبة، فإن الأفراد الإسكندنافيين المسيحيين من أكثر الناس تبرعا للمشاريع الإنسانية في الدول الإسلامية، وبعضٌ منهم يتبرع للمساجد بشكل سخي يصعب فهمه! أتمنى أن يتم استنساخ (وليس نسخ لأن الاستنساخ بروح) التجربة التعليمية الإسكندنافية فهي من أفضل التجارب العالمية، ولو أردت أن أكتب في هذا الشأن لاحتجت لعشرات المقالات لأوفي الموضوع حقه! كذلك، أتمنى نقل تجربة رعاية المعاقين في هذه الدول، فالمعاق هناك هو الآمر الناهي والجميع في خدمته ورهن إشارته! أما الصحة، فأمرها عجيب والخوض فيها سيفتن اللبيب! هذه الدول بلا شك مرّت بمخاض عسير لتصل إلى ما وصلت إليه. فالصدق والجد والمثابرة والوقوف على ناصية العلم ومساعدة بني البشر، ما هي إلا خلطات أساسية لتسنّم ذرا المجد. وفي ظل نقص الموارد الطبيعية، فإن أثمن مورد وأعظم ثروة في هذه الدول هو الإنسان! فسبحان من حوّل شعوب الفايكنج من السلب والنهب وإيذاء البشرية لأعلى الشعوب في سلّم السلوكيات والمناقب الإنسانية والحضارة العلمية، فهم مسلمون بلا إسلام ولا ينقصهم إلا النطق بالشهادتين ليكونوا كذلك! تمنياتي للعرب الموجودين بهذه الديار أن يمثلوا الإسلام والثقافة العربية خير تمثيل، لأن الشعوب الإسكندنافية لا تستطيع التمييز بين تصرفات الأفراد وبين الثقافة الأصيلة. آه نسيت أن أذكر أن صديقي الدنماركي ماهو إلا لاجئ عربي تم تجنيسه خلال ستة أشهر، وأن الحادثة لم تكن يوم الأحد الفائت وإنما في يوم أحد من عام 1992!