انتشرت قرصنة جديدة ساذجة مؤخراً، تستخدم حجة «المخالفة الشرعية» على الأجهزة المستهدفة، وتطلب غرامة قدرها ثلاثمائة دولار أمريكي من صاحب الجهاز المقرصن. تظهر صفحة خضراء وضع عليها علم المملكة العربية السعودية، للتمويه بأن المخالفة رسمية «إذا لم تدفعوا الغرامة خلال 24 ساعة من خلال cash you فسنحذف محتويات الجهاز، ونحول القضية إلى المحكمة الشرعية». هكذا بكل بساطة. القرصنة الإلكترونية قضية مقلقة في كل العالم. وليس على المستوى الفردي فحسب، بل على المستوى السياسي أيضاً. تماماً كما يفعل الفضاء الإلكتروني الحر، الذي بدأ يشكل تهديداً على السياسات والأسرار الديبلوماسية. وهذا ما أثبتته فضائح «ويكيليكس» وثورات الربيع العربي. فالفضاء الإلكتروني تعرية. هذه التعرية تختصر مسافات كبيرة على الجهات التجسسية في كل العالم. لم آسف كثيراً على قرصنة جهازي، بقدر ما أصابتني الدهشة من مدى هشاشة النظام الإلكتروني الأمريكي. فقد قرأت قبل يومين خبراً عن تعرض الموقع الإلكتروني التابع للاستخبارات المركزية الأمريكية «سي آي إي» للقرصنة على يد قراصنة اشتهروا باسم «مجهولون». وتعطل الموقع لساعات. وليست هذه المرة الأولى، فهؤلاء القراصنة صعّدوا من هجماتهم مؤخرا واستهدفوا الوكالات الفدرالية الأمريكية. وقد قرصنت مؤخراً أيضاً مواقع تابعة لوزارة العدل الأمريكية، ومكتب التحقيق الفدرالي «أف بي آي»، إضافة لمرافق حيوية كالكهرباء والمصارف والبنتاجون وشركات تصنيع السلاح الأمريكية الكبرى، كما حدث مع شركة لوكهيد مارتن في مايو 2011. واتُهمت الصين بقرصنة وزارة الدفاع وصندوق النقد الدولي والحكومة الفرنسية، ووكالة الاستخبارات الأمريكية، وسرقة معلومات من شركة «بوينج» الأمريكية الكبرى لصناعة الأسلحة، ومن شركة «ميتسوبيتشي» اليابانية، والأخيرة هي المسؤولة عن صناعة المقاتلة الأمريكية «إف 15»! إذاً فحرب القراصنة ليست في المياه الإقليمية من صوماليين على قوارب متخفية، وصواريخ وطلقات نارية تسعى لأسر الناس في عرض البحر، وطلب فدية بملايين الدولارات. إنها قرصنة تفاجئك وتنزل عليك بالباراشوت. وتختلف أهداف القرصنة، فهناك قرصنة ذات بعد اقتصادي، وهناك قرصنة ذات بعد سياسي. وقد شنّ مؤخراً قرصان ادعى أنه سعودي «أوكس عمر» هجوماً على شركات إسرائيلية، ونشر معلومات وأرقام بطاقات ائتمان لإسرائيليين. وهددت إسرائيل للرد بالمثل من خلال القرصان «أوكس كوهين». لكنها أبدت فيما بعد قلقاً، وسعت للتوصل لهدنة إلكترونية. فهذه حرب غير مأمونة العواقب أبداً، وستقود لخسائر فادحة. القرصنة الإلكترونية جريمة منظمة. وهي بداية حرب باردة إلكترونية تبدو بشكل جلي بين أمريكا والصين. لكن فيما يبدو، فإن القلق الأمريكي في هذه المرحلة «صيني أكثر منه إسلامي». وقد أعلنت الصين عن إنشاء وزارة الدفاع التابعة لها «الجيش الأزرق»، وهي إدارة خاصة تابعة لجيش التحرير الشعبي الصيني، لحماية الموقع الإلكتروني للجيش، وزيادة مستوى أمن شبكة القوات المسلحة الصينية. كما سعت إيران هي الأخرى إلى إنشاء شبكة إنترنتية خاصة بها لا علاقة لها بالشبكة العنكبوتية العالمية، وذلك لحماية معلوماتها، بعد استهداف مشروعها النووي وتعطيله من خلال فيروس «ستوكسنت»، وهو الذي اتهمت به أمريكا. هنا بدأت أمريكا الالتفات لقيمة السلاح الجديد. وهي الآن تخشى من مواجهات مثيلة. لكن القضية الكبرى التي سترافق هذا القلق هي فرض سياسات وقوانين تشريعية جديدة متشددة من قِبل الحكومات على الإنترنت. وهذا سيشكل عائقاً كبيراً على الشعوب وحرية الفضاء الإلكتروني؛ انتهاك حقوق الخصوصيات والحد من الحريات! والاستراتيجية الأمريكيةالجديدة، التي أقرّها البنتاجون مطلع 2012، قالت صراحة إن الأولويات العسكرية للولايات المتحدة تختلف بشكل جذري عن أولويات ما بعد 11 سبتمبر. فالأعداء الجدد هم «افتراضيون»! وقد رأى البنتاغون أن الهجمات الإلكترونية بمثابة أعمال حرب، وبالتالي يمكن الردّ عليها عسكرياً. وحذر المنسّق السابق لشؤون الإرهاب في البيت الأبيض، ريتشارد كلارك، من سيناريو هجوم إلكتروني على أمريكا يستطيع أن يدمّرها في 15 دقيقة. وتخوّف مدير الاستخبارات الأمريكية السابق، مايك ماكونل، من أن أمريكا تنجرّ إلى حرب إلكترونية خاسرة. ومع استعدادات أمريكا، من المفترض أن يتكون فريق الحرب الإلكترونية الأمريكيةالجديدة من حوالى عشرة آلاف موظف، وستصل قيمة سوق الأسلحة الإلكترونية والأمنية إلى مائة مليار دولار، بحسب شركة «نورثروب كينت شنايدر». هل التهديد الأمني الإلكتروني على أمريكا، الذي يهدد أمنها السياسي والاقتصادي، واقعاً، أم أنها تضخم الأخطار، وتسعى لإيجاد عدو جديد كعادتها، خدمةً لمصالحها العسكرية والاستراتيجية والاقتصادية؟ هذه بالتأكيد قضية أخرى تماماً.