قبل تكوّن الهوية الجديدة لبلاد الخليج العربي، التي اصطبغت بجانب كبير منها بموروث الطفرة النفطية، عاش الخليجي تاريخه بين عمق البحر، وأعالي النخيل، بين هذهِ المسافة الشاسعة رسم هويته، حيث ملح البحر يعرفه، وتُدركه أعشاش الطير. لم يكن غريباً عن الطبيعة، ولم يكن «شحاذاً» للجمال كما يُصوره البعض، لم يكن مُتعالياً على تُراب الأرض، ولا مُطمئناً لبحرٍ أسود لا ينضب من النفط. كانت له علاقته المرصودة بعين المواسم المترقبة لخيراتها، الدامعة من ويلاتها. وفي غبش الانتظار ذرف مواويله، حتى انكسر آخرها وهو يودّع أسلافه مع كل شبرٍ هوى إليه في قاع البحر..! رُدم بحره فتماهت جنته مع جارته الصحراء، وها هو اليوم يذهب بحزنه لعمته النخلة، مُتشبثاً ببقايا ملامحه التي يكاد يفقدها كلما نظر لعينيه في مرآة الكون. إن مهرجان النخلة الثاني بالقطيف، الذي أصبح علامة فارقة في التراث المحلي بالمنطقة، يجسد مُحاولة لزرع فسيلة أمل في عصر الحداثة والتطور والمتغيرات المتسارعة، وهو قبل وبعد كل ذلك يمثل تحدٍ لاندثار النخيل. يلاحظ هنا أن المهرجان الذي أصبح قبلة لاكتشاف المواهب وللترفيه على السكان المحليين، يصر المنظمون له على تأكيد إمكانية استثمار خيرات النخيل وإحياء بركاتها من خلال فعالياته المتنوعة، حيث عمدوا لتأكيد قدرات أبناء المنطقة في هذا المجال عبر تحفيز الأمل الكامن في أرواحهم لإشعال الحنين لنخلتهم، التي لا تزال في وجدانهم وعاطفتهم تمثل أيقونتهم على خارطة الأرض، وذلك في نبذٍ لصورة كسولة رُسمت «لأبناء هذا الزمن»، حيث يقوم المهرجان على سواعد المتطوعين الشغوفين بحب العمل والعطاء. إحياء طقوس حب النخلة والاهتمام بها، والاهتمام بما يمكن استغلاله من خلالها في عديد من الصناعات التراثية أو الصناعات الغذائية والعلاجية والسياحية، ليس مجرد محاولة إنقاذ لهوية إنسان هذهِ الأرض فقط، بل هو إنقاذ لقيم احترامنا لأنفسنا، القيم التي تآكلت وأوشكت أن تتلاشى أمام خيرات هذهِ الأرض وما تجود به من باطنها وعلى سطحها أيضاً، بحيث كدنا ننسى أن النخلة هي الأصل. وهنا إلى جانب الأهمية الكبيرة والقيمة المعنوية للمهرجان، فلا بدّ من التشديد على أهمية توظيف الأموال ورسم خطة اقتصادية ذكية، يتم من خلالها استثمار هذهِ الشجرة المباركة، كمصدر لإنتاج التمور وكمصدر لعديد من الصناعات الغذائية والعلاجية والسياحية. ليست مُشكلة النخلة أنها ابنة عصر قديم مضى، وأن لا حاجة لمواردها الآن. المشكلة أننا نحن من لم نستطع أن نَهَبَهَا سُلالة من الإنتاج. سُلالة نفتخر بتوليدها و(تكريرها) وتصديرها بين بضائع الأمم وخيراتها. إن لاستباحة النخيل دلالاته العديدة، منها حالة هَدر الموارد الطبيعية والبشرية التي هي سمة عربية بامتياز. فما زالت إسبانيا تُصَدّر للعرب زيتونها وزيتها بعدما نقلوا إليها أشجاره منذ أن قامت الأندلس، ونحن عجزنا عن الاستفادة من شجرة قامت على أرضنا منذ التكوين، شجرة أعطتنا بركاتها من المهد إلى اللحد، ولم نستطع إلى الآن سوى أن (نتحلى) بها مع قهوتنا!!