ربما أمكن للإنسان الأخير، إنسان المستقبل، أن يكون صوفياً. السوبرمان القادم كما يريده الفيلسوف المعروف «ستيس» هو إنسان المفارقة، إنسان الوجد والإشراق والاستنارة الداخلية، هو ذلك النشوان الذي يستدمج في قلبه الحواس الخمس ويستدخل في وحدته الباطنية كل اختلافات الكون. الإنسان الأخير إذن هو الإنسان الأول، هو الشومان المندهش الذي يفتتن أكثر، يتدين ويتأله أكثر، ولأنه إنسان الدهشة فإنه الأول بعد انقراض كل سلالة تمزج الوجد اللاعقلاني بترتيبات المنطق والعقل، إنه المتدين الأخير الذي يبدأ عهده بجريمة: يقتل الأب ويتجاوز اللاهوت والمؤسسة. اللاهوت المنفي هنا هو بداية لعهد طويل من الاغتراب، حالة شعرية تجمدت في مقولة، قبل أن تتثبت في مؤسسة.. كان الدين في انبثاقه تفجراً من النشوة، نشوة روحية تداهم ذلك الحالم فتحدث شللاً في حسه العام، لينتهي متفرداً، مثقفاً رسولياً، مبشراً بنعيم داخلي، إنها الكاريزما الأصيلة وهي تتعرف إلى نفسها لأول مرة في التاريخ بصفتها أصل لكل كاريزما، كما لو كانت تأسيساً ثانياً أو تدشيناً تالياً للعالم، كأنها تستبق كل رواية «كتابية» للتكوين. ولكن إذا صدقنا ماكس فيبر، فإن مآل الكاريزما هو الرتابة. تبدأ الكاريزما حرة وفريدة من نوعها، تتخذ شكل تجريب منغمس في الذاتية والتفرد والحلم، وتنتهي على أعتاب المؤسسة واللاهوت، تصبح تكراراً، شكلاً من البلادة والدوغما والسراطية «الأرثوذكسية»، إنها بالأحرى تصبح اعتقاداً مقترناً بعنف: لن تتكرس الكاريزما في صورة اعتقادات ثابتة إلا بفعل تعنيف التفرد ذاته بإكراه مضمر من الجماعة، أي في اللحظة التي يتحول فيها التدين من وجدان إلى واقعة جتماعية، من مسؤولية ذاتية للفرد إلى مسؤولية الجماعة. هذا التحول، هذا المآل الكارثي التقويضي لجماليات الافتتان والدهشة الدينية، يكتنفه اللاهوت بصفته تطويعاً قسرياً، لجموح روحي منفلت، تطويعاً محملاً بكل تلاوين العنف، فيما يشبه التدجين لكائن بري غير مروض، لسيكولوجيا همجية بدائية بحاجة إلى عقلنة اللاهوت الذي يتخذ شكل شرط حضاري لثقافة حائرة ومعلقة تتمظهر كمرحلة اغترابية لاحقة للتجربة الدينية الذاتية، مرحلة يؤثثها المزج بين عقل تقييدي وروح جامحة، بين التجربة وتأويلها. فإذا كانت العقائد الدينية بكل أطيافها ليست سوى تأويل لتجربة باطنية هي التجربة الدينية، بحيث تبدو الأخيرة هي الأصل، فإن الاغتراب اللاهوتي المهووس بالمزج يحيلهما إلى شيء واحد: الاعتقاد الأبستمولوجي هو نفسه التجربة الروحية، إن التأويل هنا يحتكر النص لصالحه، يجر النار إلى قرصه، يحتكر الحقيقة الدينية، مرسياً بذلك لاهوته الخاص. أما التيوصوفيا فدائماً ما تضعنا في مسرح من المفارقات التي تتخذ وجوداً باطنياً وخطاباً شعرياً، كتب الفيلسوف الصيني لاوتزو: «ثمة شيء يشتمل على كل شيء. ولد قبل السماء والأرض.. صامت ومستوحش يقف وحده ولا يتغير. يدور دونما خطر على نفسه، وهو أم الكون، لا أعرف اسمه، ولهذا أسميه السبيل، وأسميه بتردد: «المطلق».. المطلق هو العابر، والعابر هو التلاشي، والتلاشي هو الانبعاث». التصوف يعي ذاته كوحدة بين المطلق والنسبي، بين اللانهائي والنهائي، يعي ذاته كمفارقة ولكن أيضاً كعجز، فهو الخطاب الديني الوحيد الذي يجابه المفارقة بالمفارقة، إنه لا يقدم حلولاً لإشكالات وجودية وفلسفية أرهقت اللاهوت، وإنما ليس بحوزته سوى الصمت، ثمة إقرار في خطاب التصوف بصفته خطاباً عاجزاً بالمفارقة القارة في الوجود، فالحل الوحيد، بتعبير «ستيس» هو أنه ليس ثمة حل. ولكن المزج اللاهوتي وهو يسعى جاهداً لطمس المفارقة وتبديدها بإجراءات العنف والتعسف، ينتهي بسيرورة لا تنتهي من الفصل والانشطار كما لو كان المزج الشاقولي بين تلك الحالات المتعارضة «السماء والأرض، العقل والقلب» يترافق دائماً وأبداً مع تشظيات أفقية في جغرافيا الحضارة الدينية، ففي حين تتهاوى الحواجز في المطلق، في ذلك الحيز اللانهائي من التداخلات، ينهمك اللاهوت في تشييدها وتأبيدها، بحيث تتفاقم وتتوزع حالة الانفصال الناجمة عن الاغتراب اللاهوتي لتؤسس ترسيمة أنطولوجية بين الخارج والداخل، بين الكافر والمؤمن، بين لغة التصوف الشعرية ولغة الثوابت الدينية والعقل الجمعي. إن المسافة بين التصوف واللاهوت هي المسافة بين السيكولوجيا الدينية والسيسيولوجيا الدينية، ففي الأخيرة تقبع اللعنة والتكفير كظاهرة عابرة تجتاز التمايزات العقدية لتصبح الفروق شكلية وحسب، تصبح المذاهب مجرد تنويع لاغتراب واحد، تذوب الفوارق الجوهرية ما إن تتحول التجربة الدينية من واقعة سيكولوجية إلى واقعة اجتماعية، من قناعة ذاتية إلى قهر تمارسه قوة اجتماعية لا مرئية، لا يبدو الدين للإنسان إنسانياً وإنما العكس: قوة أو سلطة أو هيمنة، وهو في جميع الحالات سيتقلص إلى مجرد استلاب لا يقتصر على ترسيخ الفاصل الخارجي بين عالم المقدس وعالم المدنس، بل يستبطن الانفصال نفسه، يستدعيه إلى الداخل، بأن يضع حاجزاً بين الذات والذات، يقيم حالة انفصامية تنشطر الذات على إثرها إلى ذاتين: ذات حميمة خجولة متوارية وأخرى مكرسة للجماعة، وفي حالة التزاحم ستمحو إحداهما الأخرى إلى أن تبدو السيكولوجيا الدينية أو الوجدان والقناعة الداخلية مجرد انعكاس باهت لحقائق سيسيولوجية. لهذه الأسباب يمنحنا «ستيس» بشارة السوبرمان الصوفي، ذلك الإنسان الخارجي والمتوحد والفريد، ذلك المثقف الرسولي الذي يستعيد تعريف الدين من منفاه، وهو سوبرمان لأنه بطل ذاته، صانع خلاصه الذاتي، وهو كذلك سوبرمان لأنه المنقذ الوحيد للتدين من عاهات التكفير وأدبيات اللعنة والإقصاء، ولأنه أخيراً الفيلسوف الراديكالي الذي يضع حداً لمصادرة اللاهوت للإيمان والتدين بإزاحة الظاهرة الدينية من تعريفات الجماعة والمذهب إلى تعريفات الإنسان والروح.