يجب القول أولاً أني لا أتحدث عن توزيعٍ للثروة، ولا أخشى من إنتاجٍ كريمٍ وتوزيعٍ لئيم، فتلك أفكار كبرى قد لا يكون من المناسب طرحها، كما أني لا أُنكِرُ ما تحصل عليه المواطنُ السعودي من مكتسباتٍ في السنوات الأخيرة، وتحسنٍ في مخصصات الضمان الاجتماعي والرواتب، صحيحٌ أن ذلك لم يكن واضحاً أمام التصاعد التدريجي في مستويات التضخم وغلاء المعيشة، بل يمكن القول: إن الإجراءات التي قامت بها الدولة لم تكن كافية في مواجهة غول التضخم، أو حتى الإبقاء على القيمة الشرائية لدخل المواطن، ولا مُناسِبةً لما حدث من تغيرات في الأسعار على مستوى العالم، لكني على ثقةٍ من أن القادمَ أجمل، وأن ما ينتظر السعوديين خيرٌ مما فاتهم، بشرط أن تجد الكلمةُ الصادقةُ طريقَها إلى أصحاب القرار بشكلٍ مباشر وصريح، وبلا رتوش أو أقنعة، ومتى ما احتكم المسؤولون إلى التخطيط والدراسات ولغة الأرقام، لا لغة الكلام، والتصريحات المزيفة الفخمة التي (يقدحها) المسؤول من رأسه، فتسير بها الركبان إلى أن تبلغَ الآفاق، ويتداولها الناسُ على سبيل السخرية والاستهزاء، كما حدث قبل أيام مع وزير التخطيط الدكتور محمد الجاسر، عندما قال: إن المواطن السعودي ينعمُ بمستوى عالٍ من الرفاهية! وقال كلاماً في غاية الجمال لمن هو أعلى منه، وفي غاية القبح لمن هو أدنى منه، وكان ذلك الكلام من النوع الذي لا يُصدَّق ولا يُكذَّب، ولا يُجزَم به ولا يُستبعَد، لكنه بلغة الرياضيات صفرٌ على الشمال، ومن غير الممكن تحويله إلى أرقام، ولذلك فهو لا يصلح لغير الاستهلاك الإعلامي، وقد يجد فيه بعض الناس ضالته في الاتجار والتكسب، ليقوم بذات الدور الذي كانت تمارسه فرقة (حسب الله) من التطبيل والتزمير لكل ما يصدر عن الجهات الرسمية من قرارات، فإن وجد أحدهم تجمعاً للسعوديين عند المحلات التجارية لشراء (آيفون 6) قال على سبيل الاستهزاء: الراتب ما يكفي الحاجة! وإن شاهد تكدساً عند المنافذ الحدودية جاءك مسرعاً ليذكرك على سبيل الإنكار بمطالبة الناس بزيادة الرواتب! فهو يريد أن يختزل المشهد في هذه المناظر، وكأن المطلوب من السعوديين أن يعيشوا الكفاف، أو أن الدولة يقتصر دورها على أن تُجلسَهم على خط الفقر، أو فوقه بقليل، فإذا ما ابتعدَت عن هذا الخط فئةٌ مسافةً قليلةً نظر إليها على أنها مترفة! أو يريد محاكمة الأكثرية المفلسة بالنظر إلى الأقلية المترفة الذين لا يعرفهم إلا من خلال تصدرهم قائمة أثرياء العالم في مجلة (فوربس الأمريكية)، أو من خلال ما ينفقه بعضهم أثناء السفر للخارج، إنه لا يدري أن شرَّ المجتمعات هي تلك التي يزداد فيها عدد الأغنياء على حساب عدد الفقراء! قد تكون لديك قضيةٌ عادلةٌ فتخسرها لأن لديك محامياً فاشلاً، فكيف بالله عليك تريد أن تكسبَ قضيةً خاسرةً بمحامٍ فاشل، كأولئك الذين يحاولون إخفاء أشياء أكبر من أن تُخفَى، وإنكارَ أشياء أوضح من أن تُنكَر، لأن أيَّ محاولة للإخفاء والإنكار لأمرٍ في غايةِ الوضوح ما هي إلا إمعانٌ في تشويه الواقع، وزيادةٌ في القبح، وإنه لا يزعجني أن يأتيَ من يحاول تبريرَ أشياء يصعب تبريرُها، بقدر ما تستفزني طريقتُه في التبرير، كما أني لا ألومُ بعض صحفِ (الوطن) حين تقوم بحجب الأصوات المطالبةِ بزيادةِ الرواتب على سبيل المثال، لكنها تستفزني بدرجة كبيرة حين تفتح صفحاتها أمام رأي وتغلقها أمام رأي آخر، وتكيلُ للقضيةِ الواحدةِ بمكيالين، فإن من أدنى درجات العدالة أن تتيحَ الرأيَ للجميع، أو تغلقَه في وجه الجميع، أما أن تكتم أصوات الأغلبية، وتُعلي من أصواتِ الأقلية، فهذا هو منطق القوة لا قوةَ المنطق، ويتعاظم هذا السوء حين تُتَاحُ الفرصةُ لوصوليٍّ متزلفٍ يريدُ التقربَ إلى السلطةِ بأي ثمن، فيأتيك ليصبَّ فوق رأسك أنواعاً من السخافات، ويحاول بطريقةٍ عصاميةٍ أن يلفت أنظار المهمين إليه، فإن حاولت تعزية نفسك بالبحث بين كلماته عن مبررات مقبولة، وأعذار معقولة، صُدِمت بسيل من المبرراتِ السخيفة، والحججِ التافهة، والأمثلةِ الغبية، حتى أنك لا تكادُ تصل إلى نهايةِ المقال إلا وتجد في نفسك رغبة جامحة في أن تصفع القائمين على هذه الصحيفة من ذوي الدماء الزرقاء إذ سمحوا لمثل هؤلاء أن يُريقوا على صفحاتها كل هذا الحجم من السخافات والهراء والهياط (الناعم)، ولم تعُد تدري أتقرأ رأياً أم قصيدة من نوع: تكفى تكفى.. تكفى تكفى لا تنساني!