هكذا يقول أديب المهجر ميخائيل نعيمة: ما أكثر الناس؛ وما أندر الإنسان! وهذه كلمةٌ بليغة معبّرة، يفيض منها الصدق والألم في آنٍ واحد، ذلك أنّ المتأمل المتألم في واقع الحياة وصروف الدنيا يرى بعينه المبصرة كثرةَ الناس ويرى بعينه المُتبصّرة نُدرة الإنسان! هل يكون إنساناً ذلك الذي يمشي في الأرض بطراً وكِبراً وظلماً؟! هل يصحّ لنا أن نسمّي الظالم لعباد الله أو القاتل السفّاح إنساناً؟! أولئك الذين يسعون في الأرض إثماً وبغياً يقتلون الضعفاء ويسبون النساء ويريدون من الناس أن يكونوا وفق تفكيرهم الضيّق ومنطقهم الباغي هل ينطبق عليهم وصف الإنسانية؟ لا يمكن للإنسان/ الإنسان أن يفرح بالظلم والقهر والقتل والتشريد مهما بلغت قساوة الواقع أو حتمية الظروف، ولا يصحّ لكائنٍ من بني آدم أن ينتسب لشجرة الإنسانية الحقّة وهو يزهو ويفتخر بالدماء التي تسيل بفعل يده اللعينة بغير وجه حقّ! والإنسان يا سيّدي القارئ مغمورٌ في هذه الحياة الكاذبة، لن تراه إلا نادراً بوجهٍ يظهر لك تارة ويخفى تارات، ستراهُ في وجه عجوزٍ يحمل نفسَه حملاً في مسارب الأرض يبتغي لأولاده الطعام والحُبَّ والسلام، ستراه في ضحكة أمٍّ تخفي وجعها عن صغارها كي تمنحهم بعض نفسها ليعيشوا، ستراه في سحنة فقيرٍ يجُرُّ خيبته في الشوارع ويلقي بها إذا تعب على الأرصفة لا يسرق الأرض ولا يخونها، ستراه في قلب غنيٍّ يُحسن للبشر لا يسألهم عن انتماء أو ديانة أو مذهب أو قبيلة ودون أن ينشر صدقته في وسائل الإعلام الرخيصة! سترى الإنسان في تفاصيل صغيرة لا نشعر بقيمتها ربما، في الضحكة البريئة النابعة من أعماق الروح، في الدمعة الحارة المنسابة فوق خدٍّ لم يصعّره صاحبه ولم يمتهنه، في قطرة عرقٍ تلتمع على جبينٍ أسمر لم يخضع إلا للحقّ! وآهٍ ما أندر الإنسان يا ميخائيل! هذه الجموع البشرية التي تناهز المليارات السبعة؛ كم سيكون فيها من صنف الناس وكم سيكون فيها من صنف الإنسان! ورحم الله معاصرك الرافعي حينما قال: لا تسأل يا بني ما هي الحياة؟ ولكن سل هؤلاء الأحياء: أيّكم الحيّ؟!