يقوم الناقد والباحث في آداب ما بعد الاستعمار عبدول جان محمد، وهو أستاذ في جامعة بيركلي الأميركية، بإعادة تعريف المثقف بحيث يصير المنفى جزءاً أساسياً من هذا التعريف ويكون المعنى المجازي للمنفى شكلا من أشكال الوظيفة الرسالية، أو وصفاً محايداً لهذه الوظيفة في قراءة جان محمد لأنواع المثقفين الذين يسميهم مثقفي الحدود Border Intellectuals. يفرق جان محمد بين أربعة أنواع من مثقفي الحدود: فهناك المثقف المنفي، والمثقف المهاجر، والمثقف الكولونيالي، والأنثروبولوجي. وكل واحد من هؤلاء الأربعة يتخذ موقفاً خاصاً به من ثقافته الأصلية والثقافة المضيفة التي انتقل إليها. وهو يصك تعريفاً لما يسميه مثقف الحدود المحايدSpecular Border Intellectual قائلا إنه ذلك المثقف «العارف بثقافتين بصورة متساوية، وهو يجد نفسه، غير قادر، أو بالأحرى غير راغب في أن يكون «منسجماً» داخل أي من هاتين الثقافتين. فهو إذ يجد نفسه محشوراً بين عدد من الثقافات أو الجماعات، حيث لا تساعده أي منها بأن يكون منتجاً أو خلاقاً داخلها، فإن مثقف الحدود المحايد يخضع تلك الثقافات لعملية تفحص تحليلية بدلا من أن يقوم بالدمج بينها، إنه يستخدم فضاءه الثقافي البيني كنقطة انطلاق ليعيد، بصورة مباشرة أو ضمنية، تعريف إمكانات طوباوية جديدة لتشكيل الجماعات». يضرب جان محمد مثلا على هذا النوع من المثقفين إدوارد سعيد، ودبليو. إي. بي. دوبوا، وريتشارد رايت، وزورا نيل هيرستون. وهو عندما يحلل حالة إدوارد سعيد يقرأ وضعه كمثقف منفي ليؤطره في سياق تعريفه لذلك النوع الخاص من مثقفي الحدود، واصفاً إعجاب سعيد بمثقفين من طراز جوزيف كونراد وتي. إي. لورنس وإريك أورباخ ولويس ماسينيون بأنه ينسجم مع كون هؤلاء جميعاً مثقفين من الطراز نفسه. إن سعيد يلتقيهم على الحدود، يعبر معهم تلك الحدود، ويعود القهقرى معهم إلى الغرب. يشدد جان محمد على الطبيعة المرآوية المحايدة لاصطفاء سعيد للناقد الألماني إيريك أورباخ، وتعريف سعيد لقيمة المنفى في عمل صاحب كتاب «المحاكاة». إن سعيد كما يقول جان محمد يخطئ في التعرف على الخلافات الجوهرية بين عمله وعمل أورباخ، فالأخير يكتب لقارئه الغربي، وكذلك يفعل سعيد الذي يتوجه في كتابته للقارئ الغربي، لا للقارئ في ثقافته الأم. ويعيد جان محمد كون سعيد مثقفاً محايداً على الحدود بين الثقافات إلى وضعية سعيد كمثقف منفى، فسعيد، حسب جان محمد «ليس منفياً تماماً، وليس مهاجراً كذلك». للتمييز بين المهاجر والمنفي يقول جان محمد إنه في الوقت الذي يقوم فيه «كل من المنفي والمهاجر بعبور الحدود بين مجموعة قومية أو اجتماعية وأخرى، فإن موقف المنفي من الثقافة المضيفة سلبي، فيما يتخذ المهاجر من تلك الثقافة موقفاً إيجابياً. إن فكرة المنفى تشدد دوماً على غياب «الوطن»، على النسيج الثقافي الذي شكل الذات الفردية، ومن ثمّ فإنها تتضمن تمزقاً لا إرادياً، أو مفروضاً، للعلاقة بين الذات الجمعية للثقافة الأصلية والذات الفردية. إن النوستالجيا الخاصة بالمنفى (وهي نوستالجيا بنيوية أكثر من كونها خاصية فردية) تدفع الفرد في العادة لكي يكون غير مبال بالقيم والخصائص المتعلقة بالثقافة المضيفة، إن المنفي، يختار، إذا كان بمقدوره أن يختار، أن يعيش في سياق غير مرحب، سياق يشبه «الوطن». يعيد جان محمد في تعريفه لمفهوم مثقف الحدود، واحتلاله فضاء بينياً، أو بتعبير إدوارد سعيد وجوده «بين ثقافتين أو أكثر» Between Cultures، موضعة نموذج عالم الأنثروبولوجيا فيكتور تيرنر الذي يستخدم تعبير الفضاءات البينية Liminal Spaces للتعبير عن نوع من العبور من وضعية اجتماعية إلى أخرى، مع ما في ذلك من عبور مواز في الفضاء والجغرافيا. وتقترح ماي هندرسون أن نقحم مفهوم الحدود على نموذج تيرنر لدراسة «المنفى» وآدابه. وهذا ما فعله جان محمد في دراسته لمثقف الحدود حيث أقام علاقة بين تعبير «الفضاءات البينية» ومفهومه لمثقف الحدود، وكذلك «مثقف الحدود المحايد». وترى هندرسون كذلك أن من المناسب أن نستخدم نموذج تيرنر في دراسته للطقوس القبلية الذي يصلح من وجهة نظرها لدراسة مفهوم المنفى. إن البينية، من هذا المنظور، «تصف المنطقة الحدودية التي تصل بين الثقافات، والأعراق، والشعوب، وهي منطقة يصفها تيرنر أحياناً بأنها تتضمن «وضعية من التمايزات المتداخلة والغامضة». وتستنتج هندرسون أن استخدام هذا النموذج لدراسة ما أنجزه المنفيون والمهاجرون واللاجئون من إبداعات وآداب يجعلنا نرى كيف يدفع النفي والعبور إلى أرض وثقافة جديدة هؤلاء إلى تشكيل معايير ورموز ونماذج غير تلك التي عملوا وفقاً لها في الوطن الأم.