يعرف التطرف كيف يضمن لنفسه الخلود، كيف يتموضع في سيرورة أزلية، سيرورة لا تنتهي من التطرف، تكتب حكايتها «كتب صفراء» تتناسل باستمرار. إنه التعليم، تلك الأداة السحرية، التي يتعكز عليها التطرف لتعميم نفسه.. قبل أيام، أصدرت «مديرية المناهج» التابعة لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام «داعش» تعليماتها حول «المنهاج الدراسي الجديد»، تضمنت -بحسب ما نشرته وسائل الإعلام- إلغاء مواد التربية الفنية والموسيقية والتربية الوطنية والتربية الاجتماعية والتاريخ والتربية الفنية والتشكيلية والرياضية وقضايا فلسفية واجتماعية والتربية الدينية الإسلامية والتربية الدينية المسيحية… إلى آخر القائمة التي لا تبقي ولا تذر! إذ يجب أن تنسجم السياسات التربوية والمناهج الدراسية مع أيديولوجيا السلطة الجديدة وقيمها، أي داعش وتصوراتها المنبعثة من «كتبها الصفراء». وعدا عن أوامرها بتنقيح كل المناهج الدراسية من كل الشوائب و»الكفريات» السياسية والاجتماعية كالمواطنة أو القومية أو الانتماء الوطني، إذ الانتماء للإسلام وحده، الذي يتم العبث به ليلائم مقاسات داعش بتقليصه إلى تطرف رجعي، يطال المقص الداعشي أشد العلوم حصانة ومناعة ليعبث بها كيما توافق تصوراته الظلامية، فبعد اقتلاع العلوم الإنسانية والفنون والفلسفة وشطبها بالكامل، لما تحمله من نوازع جدلية تفتك بصفاء العقيدة وتثير البلبلة والفتنة، ينزع التطرف للتخفيف من غلوائه الراديكالي، نحو التحلي بقدر توفيقي وإصلاحي يسمح له بتمرير العلوم الطبيعية ولكن بعد تشذيبها من الزوائد الداروينية.. «وكثر الله خيرهم»!. وفيما قد تثير هذه الإجراءات التطهيرية في التعليم عند بعضهم ابتسامة كئيبة تضج مرارة وسخرية أمام صورة تسودها مناخات الكوميديا السوداء، إذ الإجهاز على الفلسفة والإنسانيات وتشذيب العلوم الطبيعية ليست سوى تدوير للجهالة نفسها، فإنها ستثير عند آخرين ضكحات ظافرة، فهذه النبتة الداعشية من تلك الحديقة التي تحيطها أسيجة تحول دون تسلل الوافد الفلسفي وميوعة الفن. وهنا تحديداً، حيث يقوم التطرف بمهمته التاريخية لتقطيع أوصال العلوم والمعرفة وتفصيلها وفق الشهية الأصولية والإجهاز كاملاً على الفلسفة، ليس ثمة خلاف أبداً. «وافق شن طبقة»، ما من خلاف حول تديين العلوم واستبعاد الفلسفة، الخلاف فقط حول الطبيعة السياسية، أما في الجوهر فهناك من التماهيات بحيث تبدو التعليمات الداعشية الغارقة في ظلاميتها مألوفة وليس فيها ما يثير الدهشة. لمَ الاستغراب؟ ألسنا ننفر ونمقت ونزدري الفلسفة؟ أليست بنية التفكير الداعشية حصيلة لتاريخ كامل من ازدراء الفلسفة؟.. إن السياسة التعليمية الداعشية تجد أصلها في أروقة مجتمعنا، في تاريخه الممتد منذ أغلقت الفلسفة مدارسها وغادرت العالم الإسلامي دون رجعة، منذ أقيمت تلك الجدران التي تحاصر العقل وحريته واضعة ألف حاجز أمام التفكير بترسانة ضخمة من الإجراءات والأحكام القانونية التي لا تقف عند تجريم السؤال برسم الردة والارتداد، بل تقيم تمفصلاً حاداً في عالم الكتب تحت مسمّى «كتب الضلال» كذاك الذي يسود عالم اللاهوت والعقيدة بين القداسة والحرمة والرجس والضلال، بحيث تقع المكتبة ذاتها في قلب الاستقطاب بين الكفر والإيمان، بين العقيدة «الأرثوذكسية» والفلسفة، كأن الأمة بكل طوائفها وبعد كل تلك التشظيات تعود لتتفق على شيء واحد فقط: نبذ الفلسفة. ما تخشاه «الأمة» المنكوبة بداعش ومن دار في فلكها هو التقويض ولا شيء سواه.. للفلسفة وحدها القدرة على تفكيك العقل الوثوقي وهي وحدها القادرة على إنقاذه من سباته، من نومه الأزلي الذي تسرح فيه الخرافة الداعشية.. الفلسفة هي وحدها الكفيلة بأن تمنحنا رؤية بانورامية، أن ننظر للواقع بكليته، للتاريخ بجنونه وتشظياته وسيرورته التي لا تخضع لأهواء الاعتقادات الأرثوذكسية، للإسلام نفسه وقد تصالح مع واقعه المفتت الذي لا يكف عن تشظيه وانشطاره إلى طوائف ومذاهب وأفكار وتيارات وتأويلات، الفلسفة وحدها هي التي تشفينا من سرطان الكراهية والإقصاء، وحدها الفلسفة تمنحنا القدرة على التواضع والحذر المعرفي وشهية البحث وصياغة الأسئلة والإشكالات عوض تلك الأجوبة النهائية والطمأنينة السكونية التي أنتجت بامتزاجها بأرثوذكسية موغلة في نرجسيتها، ما نلمسه اليوم من ردة وتقهقر وجهالة داعشية. ولكن ما لا تخشاه الأمة هو التوفيق والعلوم الطبيعية، فالأخيرة -على أية حال- ذات طبيعة مسالمة، خاصة في شقها التطبيقي، حيث يمكن لها أن تتعايش مع أشد العقول تخلفاً، العلوم الطبيعية ملائمة تماماً لنزوع توفيقي «تلفيقي» لأمة لا تريد أن تتغير، لا تريد أن تكون إلا ذاتها، لأمة دون تاريخ، أمة قابعة مكانها وراء الكهف الأفلاطوني، أمة وراء الظلال أو فوقها. بإمكان الماضي هنا أن يتعايش مع الحاضر، أن يكون معاصراً بالعلوم الطبيعية والدقيقة وحدها، دون إزعاج الإنسانيات والفلسفة، لك أن تكون أصولياً وطبيباً في الآن نفسه، لكن هل سمعتم أحداً يتعاطى الفلسفة دون أن تتزحزح قناعاته قيد أنملة منذ أن ولدته أمه؟، الفلسفة أداة للتخريب، لإعطاء النشء مفتاح السفر خارج الحديقة السلفية والأصولية، لهذا يتوجب استبعادها كليَّاً من التعليم حفاظاً على طلابنا الصغار!.. للفلسلفة جموح يهز القناعة والأجوبة ويرعب الدواعش!..تقول لنا الفلسفة إنها تهتم بالكليات فيما تهتم العلوم الطبيعية بالجزئيات فقط، لهذا لا نستغرب احتضانها الداعشي، بخلاف الفلسفة التي هي محض مشاغبة ذات طبيعة «موسوعية» مما يعني أنها تتناسب وحدها مع شمولية الإنسان بكل أبعاده، فهي وحدها الكفيلة باستعادة الإنسان لذاته، إذ تمنحه تكويناً موسوعيَّاً منسجماً مع تعدديته الباطنية، تشبع نهمه الروحي وتفجر داخله عاصفة من الأفكار والاحتمالات والافتراضات والأحكام التي تنسف بعضها بعضاً، لتعطيه بالتالي مهارة النقد والتمحيص، لمساءلة كل الأشياء بما فيها عقيدة الأسلاف.