«يواصل الإنسان بناء الأبراج معتقداً كلما قزمته، أنه يزداد بطولها عظمة، وأنه ينسب إليها لا للتراب. ويبالغ في تزيين جدران قصوره بالذهب، وإذا بمعدنه يصدأ بينما يلمع كل شيء من حوله. من أين له هذا الغرور، والحجارة التي رفع بها أبراجه من خلق الله؟ ليتواضع قليلاً، مادام عاجزاً عن خلق أصغر زهرة برية تنبت عند أقدام قصره،. فبمعجزتها عليه أن يقيس حجمه». هكذا تشارف الروائية أحلام مستغانمي على إنهاء روايتها الأسود يليق بك.. وعند هذا الوصف المدهش لبذخ الإنسان وترفه «اللزج»، نجد أن الدهشة الجميلة لهذا العمل الأدبي تستفيق، فرغم الاختلاف الملحوظ الذي يشهده القارئ بين «الأسود يليق بك» وذاكرة الجسد أو عابر سرير «من ناحية الحبكة الروائية وما شابه من أمور فنية، ورغم احتفاظ هذهِ الرواية ببهاء اللغة وشاعريتها؛ نجد – في تقديرنا – أن أجمل ما ابتدعه هذا العمل هو التصوير الدقيق لما تسميه الكاتبة «التشوه النفسي» لما يحدثه الثراء، والبذخ المقرف الذي يرتكبه أصحابه لردم فجوات النفس، وتعويض نواقصها. «التشوه النفسي» أو حالة «الاستلاب المادي – الرمزي» التي يعيشها الإنسان لدينا، مع الأسف هي لا تقتصر اليوم على أصحاب الثروات؛ بل هي تمتد حتى بين أصحاب الدخل المحدود، من أولئك الذين يُقال فيهم «يتدين ليتزين»، حالة الهوس هذه بما هو سطحي وقشري ومادي، تمتد في كثير من المجتمعات، وتتفاوت حسب اختلاف القدرة الشرائية بين المجتمعات، لكن ما يجمعها هو حالة «الاستلاب» ذاتها باسم ماركة ما، فذلك يعمل كل الشهر فقط لسداد قسط سيارته «Porsche»، وتلك تَرسم خطة اقتصادية تكتيكية لامتلاك حقيبة «Hermes» بينما يعمل ذلك الرجل بدوام كامل كل الشهر مقابل قطعتين من سيراميك «Roberto Cavalli»!! هذا الفرز الاجتماعي الجديد الذي يعيشه إنسان اليوم، هو فرز مُختلف عن كل ما قبله من أنواع التقسيم الاجتماعي الذي فرز البشرية إلى طبقات متدرجة في كل زمن حسب معاييراقتصادية وطائفية وقانونية..إلخ. هنا الفرز لا يقوم على أساس رأس مال مادي، أو على مكانة اجتماعية أو دينية أو نحوه، هو فرز يقوم على أساس رأس مال رمزي – وهو الذي يشمل كل أنواع الرسملة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية ذات الاعتبار المعنوي بالنسبة للمجتمع الذي يعيش فيه الفرد – وهو أدنى أنواع رأس المال الرمزي هذا، حيث إنه رأسمال «موهوم» لا يعتمد على قيمة حقيقية تمتلكها ذات الفرد، بل هي قيمة وهمية ترفع مكانة الأفراد أو تُدنيها من خلال اسم فقط! اسم ماركة عالمية اجتهد أصحابها في إيهامنا بمستوى الجلال والهيبة والحضور الآسر التي ستمنحنا إياه في حضرتها، بعد أن اجتهدوا في رفع سعرها لمستوى كل تلك الأوهام، وتأتي مسألة الجودة التي لا ننكرها أبداً في آخر القائمة. هذا الوهم الذي تبيعنا إياه العولمة، يأتي في جُملة بضائع «بيع الوهم على الذات» الذي يُعتبر عالمنا العربي أكبر زبائنه…. يتبع.