بعيداً عن الأصابع المخابراتية الخفية التي تقف وراء داعش وتديرها من وراء الكواليس، وبعيداً عن مدى تقاطع مشروع هذا التنظيم وباقي التنظيمات المشابهة كجبهة النصرة مثلاً، مع المشروع الأمريكي الذي حدد هدفه بإعادة رسم خارطة المنطقة، وحدد أداته لتحقيق ذلك الهدف بما سماه الفوضى الخلاقة.. بعيداً عن هذه الخلفية المعقدة والمتشابكة، فإن الحكمة تقتضي منا مواجهة الأسباب التي جعلت من شبابنا صيداً سهلاً لمثل هذه التنظيمات المرعبة. إذا كان لنا أن نحدد عاملاً أولياً يقف وراء ما نراه اليوم من جنون ممتزج بأسوأ درجات العدوانية، فإنني لا أشك لحظة في أن الخطاب الديني المتشدد والمتشنج هو العامل الأول. ويأتي بعد ذلك التساهل مع أصحاب هذا الخطاب الذين مارسوا التحريض، وغرسوا بذورهم السامة في عقول ووجدان آلاف الشبان الذين تحولوا إلى مخلوقات بشعة عجيبة، تنظر إلى إراقة الدماء وتقطيع الأوصال، كما قال أحد وعاظهم المشاهير، باعتباره سبباً من أسباب تحقيق المتعة والرضا الذاتي! أي فكر هذا الذي أوصل الشباب إلى هذا المستوى من الانحطاط والحقارة والإجرام؟! إن ما نمر به اليوم يجعل من الواجب علينا أن نواجه الحقيقة كما هي.. وبدلاً عن البحث في الأسباب الخارجية التي لا ننكر وجودها، دعونا نراجع أبرز سمات الخطاب الديني السائد في السنوات الأخيرة، ونبحث في الأسباب التي أدت بنجوم الوعظ التليفزيوني والإلكتروني، إلى تجاهل قدسية النفس البشرية، رغم كل الدماء التي سفكت مرة تحت ذريعة الثورات، ومرة تحت ذريعة تحكيم الشرع، ومرة تحت ذريعة الانتقام الطائفي. كم بياناً صدر من علماء الدين، تم التنديد فيه بالجرائم التي تحدث باسم الإسلام، ووضحوا حكم الشرع فيها؟.. كم واعظاً من نجوم الفضائيات تحدث عن مذابح التطهير العقدي التي تقيمها هذه الجماعات لأبناء الطوائف الأخرى؟.. لا تقولوا لي إن الجريمة تبرر الجريمة.. لو كان هذا المنطق سليماً فماذا عسانا فاعلين بالنص القرآني الصريح: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون) المائدة؟! إن دماء ملايين المسلمين التي سالت في العراق وسوريا وليبيا واليمن ولبنان، تكاد تكون غائبة تماماً عن برامج وعاظ الفضائيات.. وحتى لو حضر ذكر تلك الدماء، فإنها تُستحضر في الغالب، لتجنيد الشباب بهدف ارتكاب مزيد من المذابح.. فهل يمكننا بعد ذلك أن نبرئ هذا الخطاب أو حتى نتهمه بالسذاجة والغفلة وعدم القدرة على تقدير مكامن الخطر؟! حتى الآن ما زال كثير من شيوخ الفضائيات يتجاهلون حرمة النفس والدم، في حين أنهم يفردون مساحات واسعة من أحاديثهم وكتاباتهم، لتحريم الموسيقى وكشف الوجه والنمص ومشاهدة المسلسلات وزيارة القبور!.. فهل الظرف الاستثنائي الذي نعيشه يحتمل خطاباً يتسم بهذا القدر من اللامبالاة تجاه ملايين الأرواح التي أزهقت، هذا على افتراض أن سماع الموسيقى وكشف الوجه والنمص وزيارة القبور، تدخل ضمن دائرة الكبائر وليس المحرمات فقط! حتى عندما بدأ خطباء المساجد في الدعاء على داعش، لم نسمع منهم إلا تحريم الخروج على ولي الأمر.. وهو بلا شك أمر محرم.. لكننا لم نسمع شيئاً عن المذابح التي صورها هؤلاء بأنفسهم – واعظ شهير حذّر ممن سمّاهم بالمجاهدين من تصوير ما يفعلون بالأعداء حتى لا يتخذ ذلك حجة عليهم – ولم نسمع شيئاً عن إصدارهم الحكم بالقتل على كل من يخالفهم، ولو في أبسط الأمور العقدية أو الفقهية.. ناهيك عن سبي النساء وبيعهن في سوق النخاسة! إن الخطاب الديني الذي لا يرى بأن الحفاظ على أرواح البشر هو الأهم وهو المقدم في سلم الأوليات، لا يمكن تبرئته من المسؤولية في إزهاق كل هذا الكم من الأرواح، وفي ارتكاب كل هذا الكم والنوع من المظالم غير المسبوقة في تاريخنا. لقد ابتليت الأمة منذ ما يسمّى بالجهاد الأفغاني، بفكر عجيب يستهتر بقتل النفس رغم ما ورد في القتل من تحذير شديد اللهجة: (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أن من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا) المائدة.. ولكل من يعتقد أن قاتل النفس سيحاسب فقط على عدد الأنفس التي تسكن الأرض لحظة ارتكابه الجريمة، فهو مخطئ، لأن النص هنا صريح في تحديد الناس، كل الناس، منذ آدم وحتى قيام الساعة؟.. فهل هناك ما هو أعظم من انتهاك حرمة النفس؟.. وهل هناك ما هو أعظم من تجاهل هذه الحرمة وعدم الإشارة إليها وعدم الحديث عنها، بوصفها أخطر أنواع الجرائم التي يمكن أن يرتبكها الإنسان حسب الشرع؟! يجب أن نتحلّى بالشجاعة ونواجه أنفسنا لنحدد مسؤولياتنا.. وإلا فإننا لن نتقدم صوب المستقبل، بل سنتراجع نحو مستقبل لا مكان فيه للمستقبل.. ولا حتى للماضي السحيق.