كثيراً ما نكون في مكان ما، مستشفى، أو سوق، أو أي مكان عام يحوي جمعاً من الناس الذين تجري بينهم تفاعلات إنسانية مُختلفة، غالباً ما تُطبع تلك التفاعلات بنماذج من أفعال التجهم، فعلاً وقولاً وحتى بصمت، تنطقه العيون تجهماً. نتعامل مع البائع أو الطبيب على أنه موظف يقوم بخدمتنا مقابل بدل مادي فقط، وأحياناً نجده هو من يتعامل معنا على أساس أنه يقوم بواجب محدد تجاه عميل فقط؛ وفي الحالتين تنتفي الإنسانية، تلك التي تفرض احترامها من خلال الكلمة الطيبة، وجمال الحضور، وحيث تنقصنا هذهِ الإنسانية في كثير من الأحيان، حتى ليغدو التصحر العاطفي حالة مجتمعية عامة، وسِمة تطبع هويتنا. في المجتمعات أو البيئات المتجهمة يغدو كل لطف غزلاً، والطريق للابتسامة هو هزل، حتى الكوميديا تجدها تهريجاً هزلياً مقززاً، وذلك يعكس عمق الفجوة في الذات، وحالة من عدم التصالح مع الجمال والابتسام. مع الأسف إننا نعيش حالة التصحر هذه حتى مع أطفالنا، وأمهاتنا، وآبائنا، وإخوتنا؛ لذلك نجد أننا أكثر انجذاباً للأصدقاء من الأهل أحياناً. لأن في أقل سوء نحن نخجل من أن نعبر عن عاطفتنا لأرحامنا، على الرغم من أن لهذا الأمر تداعيات كبيرة يصعب ذكرها جميعاً، قد تتحول أحياناً لمشكلات نفسية واجتماعية، وذلك فيما يتعلق بالتربية والزواج والعلاقة بمختلف أفراد الأسرة. كما أننا نعود لنُورث أبناءنا هذهِ الحالة من التصحر العاطفي، في عملية تربوية دائرية، غير مُدرِكة لمخاطر الأمر، مما يجعلها عاجزة عن التمرّد على النسق والخروج عليه، بعملية تربوية تجمع بين الاحترام والعاطفة بميزان العقل والثقة والإنسانية. إن حالة التصحر العاطفي التي نعيش، توهمنا دائماً بأن الكلمة اللطيفة عيب أو ضَعف، وأن الجمال هو رومانسيات تليق برجل وامرأة فقط، وليس الجمال حالة عامة نعيشها مع صغارنا وكبارنا، في مفردنا، أو في ثنائياتنا الحميمة، أو في اجتماعنا الأسري والإنساني بشكل عام. حيث الحاجة للجمال حاجة روحية لم تغفلها العقائد، كما انشغلت بها الحضارات. ومن اللافت بأننا شعب ترتفع فيه نسبة الأناقة والاهتمام بقرائن الجمال المادي من كماليات وديكورات ونحوه، لكن مازال ينقصنا كثير من أناقة التفاعل الإنساني قولاً وفعلاً، وما أبرئ نفسي.. ومن الواضح أننا عندما نُسافر للاستجمام والاستمتاع بجمال الطبيعة البيئية، نجد أننا نبحث باللاوعي عن جمال الطبيعة الإنسانية. لكننا ننتشي بإنسانيتنا في الخارج، ونقمعها ونعنفها في الداخل. والحجة دائماً أن الآخر قد يُسيء النية ونعود لنوقظ «حُرَّاس النيات» من جديد، بدلاً عن أن نوقظ إنسانيتنا بثقة، كما نوقظ إنسانية الآخر. متكلين على قدرتنا على التصرف المناسب في الوقت المناسب. بين احترامك وهزلك، هناك ابتسامة تُحرك عضلات وجهك، تُزهر شبابك، تُحسب في ميزان حسناتك.. هنالك كلمة طيبة تفرض احترامك الحقيقي. كما أن بين «الكلمة الطيبة» و«الخضوع في القول» مسافة كبيرة، الإنسان العاقل قادر على رؤيتها وتحديد متى وكيف وأين يقف عندها. مما يعني أن التَصَحُّر حالة عامة. نجدها تمتد برمالها حتى على الوافدين؛ حيث كل سلوك لطيف هو مدعاة للشك، مما يُجفف أرواحنا، وينعكس على علاقتنا بإنسانيتنا في مختلف تفاعلاتها.