مضى الشهر الكريم بكرمه وبكل ما حمل من نظام حياتي مُغاير عاشته المجتمعات الإسلامية، بدرجات متفاوتة من التغيير -دون أن ننسى ما كان و لم يزل من عدوان على غزة- من ناحية نظام حياتها اليومي. ولا شك أن هذا الشهر الفضيل حمل معه من جملة خصوصياته فرصة لعيش نظام حياتي مُختلف عن سائر أيام العام. إذن كانت فرصة لعيشٍ مُختلف داخل مجتمعاتنا نفسها، داخل بيوتنا، وذواتنا. التغيير والاختلاف وكسر الروتين ما هي إلا أدوات حياتية لإعادة اكتشاف ذواتنا التي غالباً ما نجهلها، أو نتجاهلها استسلاماً لما يحدث حولنا؛ ونبقى نتفرج عليها، دون أن يكون لنا دور في مُحاولة الحفاظ على هذهِ الذات أو على الأقل ما نتمنى أن تكون عليه في هذهِ الحياة التي ليست إلا محاولة تنظيم أو إعادة ترتيب مستمرة، أمام الصدمات وعبثية الزمن أو الظروف لنقف «بمتعة أو فائدة» أمام كل استحقاقات الحياة، فلا نفقد هذهِ الذات بتخلينا عن مسؤولياتنا و أدوارنا المُشَكلة لوجودنا في هذهِ الحياة. كسر الروتين الذي أحدثناه في الشهر الفضيل يجدر به أن يقودنا بجاذبية التجديد والتغيير أن يحرك صنارة الذات.. نحو صيد أهدافنا أو أمنياتنا؛ فحكمة الزمن تقول: إننا سنسير جميعاً في لُجَج الحياة، لكن لا بد لنا أن نقود مركب مسؤولياتنا نحو ميناء الهدف بعيداً عن عبثية الأمواج.. ودوماً نحو محاولة عيش متوازنة؛ فمغبون من فقد شراع توازنه أو على الأقل استسلم للريح، ولهذيانات الأيام. هذهِ المُحاولة لرتق حكمة الزمن، وعيش بركات التغيير والاختلاف وإن كانت على مستوى بسيط كاختلاف نظام حياتنا اليومي في شهر رمضان، ومُحاولة استعادته بعد انقضائه، هي نوع من تمرين الذات على كسر ما هو مُعتاد ومُكَرَّر ومُسَلَم به، وهو تمرين لإعادة حساباتنا بطريقة مُغايرة، وعلى اكتشاف مكامن هذهِ الذات وطاقاتها المجهولة. وكما في «العقل الجديد» عند ابن خلدون: (… لا شك أن كل صناعة مُرتبة يرجع فيها إلى النفس أثر يُكسبها عقلاً جديداً تستعدّ به لقبول صناعة أخرى ويتهيّأ بهِ العقل بسرعة الإدراك للمعارف)، أو هي «الديناميكية الاجتماعية والثقافية» عند سوروكين؛ تلك التي تؤكد أن البنية المعرفية أو الفكرية عند الإنسان تنتقل بنيوياً من جانب إلى آخر؛ علَّ ما عشناه من اختلاف وكسر للروتين في شهر رمضان أن ينتقل بنا نحو اكتشاف متجدد لذواتنا، في ظلِّ الاختلاف والتنوع وتَقَبُّل التغيير. فغالباً ما نتوق لشهقة الضوء بعد كِسَف الظلام، كما نشتاق لهدأة الليل بعد ضجيج النهار، وتلك هي لذّة الاختلاف.