الوعي هو الميدان الأول لأية معركة، أما جبهات القتال فتأتي دائما في المرتبة الثانية. المواجهات العسكرية تهدف إلى استبدال واقع جديد بالواقع القديم. لكن الواقع الجديد يبقى عرضة للتغيير بمجرد أن يطرأ تعديل ما على موازين القوى. التغيير بعيد المدى يتوقف على قدرتك على إحداث تغيير حقيقي على مستوى الوعي. أما تغيير الواقع على الأرض بواسطة القوة العسكرية، فإنه يظل مرهونا بامتلاك أسباب القوة في بعدها العسكري التي لا تدوم لأحد. القوة العسكرية جزء من العناصر التي يتشكل منها مفهوم القوة في العصر الحديث، وهي على أهميتها، تظل عاملا مساندا وليس أساسيا، لحسم أي صراع على المدى الطويل. في عام 1967 ورغم أننا تعرضنا لمحرقة عسكرية خلال 6 أيام فقط، فإننا لم نهزم، لأن العدو لم يستطع وقتها أن يخترق وعينا الجمعي. لهذا لم تشكل حرب الاستنزاف التي ابتدأت بمعركة (رأس العش) بعد مرور أقل من شهر على عدوان يونيو، صدمة لكل من رأى المسألة من هذه الزاوية.. أي الحرب على مستوى الوعي. صحيح أن العدو كان قد تمكن من تدمير وشل معظم قدرات الجيشين المصري والسوري خلال عدوانه، لكن عدم قدرة العدو على النفاذ إلى الوعي الجمعي، مكننا من الوقوف على أقدامنا في مدة قياسية بكل المعايير. على العكس تماما، فقد كان انتصار أكتوبر هو بداية الهزيمة، لأنه كان المدخل لأكبر عملية تضليل أو غسل دماغ حدثت للوعي العربي. انتصار أكتوبر الذي صنعه الجنود والضباط المصريون والسوريون، تم تجييره لحساب أخطر وهم ابتلعه العقل العربي: السلام. ومن يتابع محطات الصراع العربي الإسرائيلي، يعرف جيدا أن العدو لا يقبل بالتوصل إلى اتفاقات سلام قائمة على الندية، أو حتى اتفاقات سلام تحفظ سيادة الدولة العربية التي توقعها. واتفاقية كامب ديفيد التي وقعها العدو مع أكبر وأقوى دولة عربية، هي خير دليل على أن العدو لا يتنازل عن أية أرض إلا مقابل التنازل عن السيادة عليها. المعركة في عصرنا هذا هي معركة وعي في المقام الأول، ولولا قدرة الرئيس السادات على اختراق الوعي المصري وجزء من الوعي العربي لصالح الخديعة الكبرى (السلام)، لما تمكن من توقيع اتفاقية السلام التي بدأت معها مرحلة جديدة من المعاناة في مصر والوطن العربي على حد سواء. المشكلة لا تكمن فقط في تواطؤ نظام عربي ما مع العدو لإحداث انقلاب على مستوى الوعي الجمعي، كما حدث في الحالة المصرية إبان مرحلة السادات. هناك أدوات أخرى يلجأ إليها الاستعمار مستفيدا من تقدمه العلمي، لتزييف الوعي بالذات لدى العرب والشعوب المستهدفة الأخرى. وأظن أن أسوأ ما يمكن أن تصاب به أمة من الأمم، هو النظر إلى ذاتها ليس كما هي عليه بالفعل، ولكن من خلال منظار العدو. الغرب الاستعماري اعتمد على المصطلح السياسي كأداة لتزييف وعي الشعوب، بعد أن منح المصطلحات سلطة معرفية غير قابلة للنقد أو المناقشة.. وهو ما جعل بعض هذه المصطلحات يرتقي إلى مرتبة البديهيات نفسها! نحن مثلا نردد وراء الغرب ودون تفكير، مصطلح (الشرق الأوسط) عندما نريد الحديث عن الوطن العربي أو المنطقة العربية، دون أن ننتبه إلى الاختزال والمغالطات والضلالات التي يحتوي عليها هذا المصطلح الملغوم! من جهة أولى يهدف خلق هذا المصطلح وترويجه، إلى النظر إلى المنطقة باعتبارها رقعة جغرافية لا يربط بين شعوبها سوى صلة الجوار. بمعنى آخر فإن المصطلح (الشرق الأوسط) يتجاهل الهوية العربية للمنطقة، ويتغافل عن وحدة النسيج الحضاري والتاريخي لشعوبنا. وهذا تدليس معرفي يصل حد الجناية العلمية. من جهة أخرى يهدف المصطلح للاعتراف بالكيان الإسرائيلي بوصفه عنصرا من العناصر التي تتشكل منها هذه الرقعة الجغرافية. بل إن المصطلح ابتكر في الأساس لمنح الكيان الصهيوني دائرة إقليمية ينتمي إليها أسوة بباقي دول العالم التي تنتمي لوحدات إقليمية تتشكل من عديد من الدول، كالبلقان في أوروبا، أو الهند الصينية في جنوبي شرق آسيا. إننا نواجه واحدة من أشرس المعارك التي يخطط لها ويديرها الاستعمار، وما لم ندرك طبيعة الصراع الذي نخوضه والأدوات التي يستخدمها العدو، فإننا سنتحلل بالتدريج . إننا لا نخوض صراع وجود في فلسطين فحسب، ولكننا نخوض معركة كينونة فرضتها علينا المؤسسة الاستعمارية.. فإما أن نكون أو لا نكون.. إما أن نمتلك وعيا حقيقيا بالذات، ونحافظ بالتالي على كينونتنا، وإما أن نستسلم لمحاولات الاختراق فنخسر وعينا.. ومن يخسر وعيه يخسر أهم عناصر كينونته. المعركة شاقة وطويلة، ووعينا هو الهدف الرئيس ، فمتى سنفيق ؟!