الإعلام كما يُقال مرآة عاكسة للمجتمع بكل سلبياته وإيجابياته فهو سلاح ذو حدين نستطيع أن نصنع منه معول هدم أو بناء طبقاً لدرجة الوعي التي تتصف بها النخب الإعلامية ذات التأثير المباشر على مراكز القوى في فضائنا الإعلامي. الحديث عن الإعلام الخليجي مخجل ويبعث في النفس الاشمئزاز والنفور لمجرد سماع عبارة «إعلام خليجي» لأن هذه العبارة التصقت في السنوات الأخيرة بكل ما لا يمت للإبداع والفن الحقيقي بصلة، فهو يبحث عن كل شاردة وواردة في مستنقع الرذيلة ليسوق لها عبر مسلسلاته وبرامجه، وكأننا مجتمع يعوم في بحر الخطيئة بمحض إرادته دون الاكتراث لكل القيم الدينية والأخلاقية التي تحكمه!. كانت القنوات الخليجية في السابق – رغم قلة ما تعرضه من مسلسلات وبرامج – تمثّل القيم الحقيقية لأبناء المجتمع من بساطة وعفوية في طرح القضايا والمشكلات التي تظهر على سطح المجتمع بعيداً عن إثارة الغرائز البهيمية والأفكار الشيطانية كما يحدث الآن، فكلنا نتذكر المسلسلات الخليجية القديمة التي لا نزال نتوق لمشاهدتها من آنٍ لآخر، مثل درب الزلق وخرج ولم يعد وطاش ما طاش وفايز التوش…. وغيرها من مسلسلات الزمن الجميل. وهنا أود أن أستوقف القارئ الكريم لأثير في ذهنه التساؤلات التالية: هل لعبت الرقابة في ذلك الزمن دوراً بظهور مثل هذه المسلسلات الجميلة؛ بمعنى أن القيم والأخلاق التي تحكم القائمين على الرقابة هي التي منعت الممثلين والمؤلفين والمخرجين من تقديم أعمال هابطة، لإدراكهم بأنها ستكون حبيسة الأدراج إذا ما خالفت أعراف وتقاليد المجتمع؟ أم العكس؛ أي أن صناع الدراما (الممثل والمؤلف والمخرج) كانوا على قدر كبير من المسؤولية الاجتماعية تجاه مجتمعاتهم، ولم يكونوا بحاجة لوجود رقابة في ظل رقابتهم الذاتية؟ ربما مثل هذه التساؤلات تجعلنا نعيد حساباتنا ونتقصى الأسباب الحقيقية لهذا الانحدار المؤسف لأغلب المسلسلات الخليجية، فهي ترسخت في أذهان الأطفال والشباب صور مغلوطة عن مجتمعاتهم بسبب تكرار عرض المسلسلات التي تناقش قضايا الجنس والمخدرات بشكل سطحي لا يطرح الحلول بقدر ما يساهم في نشر الرذيلة!. فأغلب المسلسلات والبرامج التي عُرضت في السنوات الأخيرة ليس لها أي قيمة فنية لا من ناحية الحبكة الدرامية ولا من ناحية الأداء التمثيلي ناهيك عن السيناريوهات التي تكاد تكون متطابقة في مجمل مشاهد الأعمال الدرامية. حقيقة أتعجب من إصرار صناع الدراما في منطقة الخليج على تجسيد المجتمع الخليجي بصورة المجتمع المخملي الغارق في بحر الملذات والخواء الفكري، لا هدف له في هذه الحياة سوى البحث عن مزيد من الرفاهية، لدرجة أن الفكرة الأساسية لكل عمل درامي خليجي تكاد تنحصر في قضايا الجنس والمخدرات، وهي حالة تنم عن اضمحلال فكري سائد في الساحة الفنية برمتها ودليل على غياب الفنان المثقف من المشهد العام للدراما الخليجية. كنت أتمنى لو أن أحد الفنانين في منطقة الخليج حاول محاكاة التجربة الثرية للفنان السوري ياسر العظمة الذي أبدع في تجسيد هموم وطنه بقوالب كوميدية وتراجيدية تعكس مدى عمق أصالة هذا الفنان الذي تغلب بفضل ذكائه وسعة أفقه على قيود الرقيب في بلد مملوء بمظاهر القمع والاستبداد، فهو على الرغم من إغراءات المادة لم يقع في فخ الإسفاف والانحدار الأخلاقي الذي يحاول بعض المنتجين ترويجه من خلال سخائهم المادي لتقديم أعمال تجارية هابطة بحثاً عن الربح السريع، فالأمر بالنسبة له يتعلق أولاً وأخيراً بمبادئه التي تأصلت في نفسه عن قناعة تامة بعد تجارب مريرة استطاع أن يلخصها في مسلسله الشهير «مرايا». ويقف على ذات الخط -وإن كانا أقل منه وعياً وثقافة – الفنان دريد لحام والفنان محمد صبحي اللذان كان لإسهاماتهما دور في فضح الواقع السياسي التعيس والمهيمن على مفاصل الحياة في المجتمعات العربية. من الإنصاف عند الحديث عن الأعمال الفنية في الوطن العربي أن نشير لأعمال رسخت وجودها في الذاكرة الخليجية بحيث جسدت حياة المجتمعات الخليجية بشكل إيجابي وبعفوية متناهية رغم قلة الإمكانات المادية والتقنية في ذلك الزمن إلا أنها استطاعت أن تبلغ آفاقاً شاسعة في ذاكرة المشاهد الخليجي مثل أعمال الجيل الذهبي الذي يمثله الفنان حسين عبد الرضا وحياة الفهد وسعاد عبدالله وغانم الصالح وغيرهم. رغم تحفظي على أعمالهم الأخيرة التي لا تعتبر بأي حال من الأحوال امتداداً لتاريخهم الفني العريق، فهي من وجهة نظريَ شوهت كثيراً مسيرتهم الحافلة بالأعمال الخالدة حينما استسلموا لإغراء المادة على حساب القيمة الفنية للعمل. واستشهادي بهؤلاء العمالقة يأتي من منطلق أن الإبداع لا تقيده قلة الإمكانات ولا حواجز الرقابة إذا اجتمعت الموهبة الحقيقية مع حس المسؤولية الاجتماعية في ذات الممثل حتى لو لم يكن على قدر كبير من العلم والمعرفة. ما يحدث الآن في الساحة الخليجية من إسفاف وانحطاط لا مبرر له سوى غياب الفنان المثقف عن الساحة الخليجية والذي يؤمن بوعي أن الإبداع لا يعني الغوص في أعماق سلبيات المجتمع وترك إيجابياته من باب الإثارة وشد الانتباه؛ لأن في ذلك هدم معنوي ربما يؤدي في نهاية المطاف إلى قذف المجتمع في عوالم اليأس والإحباط. وحتى لا يُساء فهم ما رميت إليه؛ أقول كما أن لكل مجتمع رذائل تشوه صفاءه الروحاني، أيضاً هناك من الفضائل ما ينير عتمة الدروب المظلمة في حياتنا، فالفضيلة تنتشر في المجتمعات بذات القدر الذي تنتشر به الرذيلة، إن وجدت من يسوّقها إلى الناس عبر إعلام هادف تقوده نخب فكرية تحترم عقلية المشاهد ولا تكرّس في نفسه تلك الروح الانهزامية التي لا تخدم الحراك الاجتماعي في أي من مظاهره الإنسانية ولا الأخلاقية.