فجأة، وبدون مقدمات معلنة، تحوّل الإعلام العالمي نحو العراق بخبر سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) على مدينة الموصل التي تعتبر ثاني أكبر مدينة في العراق، وسيطرة التنظيم على محافظة نينوى ودعوة زعيمها أبو بكر البغدادي الزحف إلى بغداد وإسقاط النظام الحاكم، كما تم الإعلان عن فتح الطرق إلى الرقة ودير الزور السوريتين، بعد أن حقق تنظيم داعش تمدداً كبيراً في المساحات التي يسيطر عليها في البلدين، ليشطب الحدود بين سورياوالعراق في أول مساس حقيقي باتفاقية سايكس بيكو التي اقتسم الاستعمار الغربي بموجبها عام 1916 بلدان الوطن العربي. بالإضافة إلى الموصل، وقعت كركوك الغنية بالنفط تحت قبضة قوات البشمركة الكردستانية، ليسجل الإقليم هو الآخر تمدداً يقدر بنحو 40% من مساحته الحالية، ويضيف ثروة نفطية كبيرة من حقول كركوك النفطية. وبعيداً عن الروايات التي مكّنت تنظيم داعش من السيطرة على الموصل في عدة ساعات، وانسحاب أو هروب آلاف من الجيش العراقي دون مقاومة تذكر، إلا أننا بصدد معطيات جديدة تنذر بتقسيم العراق إلى 3 أقاليم على الأقل وإشعال حروب داخلية على أسس عرقية وطائفية، وأخرى إقليمية هدفها تعزيز وتعظيم مصالحها في العراق. لاينكر تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام قيامه بعمليات القتل والتنكيل بما يعتبرهم خصومه أو أعداءه، فهو يفتخر بإصدار البيانات الصحافية وبتحميل هذه العمليات على مواقع التواصل الاجتماعية، ويتفنن في الصور التي يبثها لإثارة الرعب وتقديم صورة يريد زعماء التنظيم من خلالها توصيل رسالة إزاء طبيعته القتالية ورؤيته للدولة التي يقتل من أجل تأسيسها على الخريطة المحددة في اسم التنظيم، وربما أكبر من ذلك في المستقبل، ما يضع بعض بلدان الخليج في دائرة الاستهداف الداعشية. تعود أصول تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) إلى أيام أبو مصعب الزرقاوي (أحمد فاضل نزال الخلايلة) الذي أسس في التسعينات تنظيماً يدعى «التوحيد والجهاد»، وبعد لقائه في أفغانستان بأسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة وقتها، أسس تنظيم «قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين» وأعلن وقتها مبايعته ابن لادن في العام 2004. وبعد مقتل أبو مصعب الزرقاوي في يونيو 2006، تأسس في أكتوبر من نفس العام تنظيم «دولة العراق الإسلامية»، إثر اجتماع مجموعة من الجماعات المسلحة التي تقاتل في العراق، واختارت أبو عمر البغدادي زعيماً لها، وقد تبنّت عمليات مسلحة وتفجيرات في العراق. وبعد مقتل زعيمها أبو عمر، أصبح أبو بكر البغدادي زعيمها، وقد شهدت العمليات العسكرية التي يقوم بها التنظيم في عهد زعيمه الجديد تكثيفاً وتزامناً ودقة، ومن هذه العمليات عملية البنك المركزي العراقي، وزارة العدل واقتحام سجني أبو غريب والحوت. ومع تفجّر الأحداث في سوريا تشكّل ذراع القاعدة هناك بالإعلان عن تأسيس جبهة النصرة لأهل الشام معلنة قتالها ضد قوات النظام السوري، وأعلن أبو بكر البغدادي دمج جبهة النصرة إلى التنظيم الأم، فبدأت الخلافات بين البغدادي والجولاني تظهر للعلن، ما اضطر زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري إلى التدخل وتنصيب الجولاني زعيماً للتنظيم، إلا أن البغدادي رفض القرار وأعلن تبرؤه من زعامة الظواهري، وواصل قتاله جبهة النصرة في سورية واحتل جزءاً كبيراً من الأراضي التي كانت جبهة النصرة تحتلها هناك. وقد تبنّى تنظيم داعش عملية تفجير السفارة الإيرانية في بيروت مما يعد اختراقاً كبيراً في الضاحية الجنوبية لبيروت التي يسيطر عليها حزب الله، في حين تمكّن التنظيم من قضم مساحات مهمة من مدينة الفلوجة العراقية بدءاً من أواخر العام 2013، لتكرَّ سبحة التمدد داخل المدينة والإطباق على مدينة الموصل ومحافظة الأنبار منتصف الأسبوع الثاني من شهر يونيو الجاري، لتقف المنطقة على رجل واحدة ولتبدأ التصريحات الإقليمية، فضلاً عن الداخلية في التوارد بطريقة دراماتيكية ويدخل العراق في طاحونة الحرب الداخلية ولكن بشراسة أكبر، قادت رئيس الوزراء إلى الدعوة لتشكيل جيش من المتطوعين مواز للجيش العراقي الذي لم يثبت قدراته القتالية في الموصل. كانت عين داعش على نفط كركوك الذي يعتبر من النفوط الخفيفة إلا أن النظام السابق وحين كان يواجه الحصار النفطي والاقتصادي في التسعينات ومطلع الألفية الثالثة كان يعيد ضخ النفط المستخرج في الحقول النفطية، مما أدّى إلى تردي جودته. وينتج حقل بابا كركر في كركوك نحو 270 ألف برميل يومياً، وكان النفط قد تدفق منه عام 1927، وبدأت عملية استخراجه عام 1934. ويتمتع الحقل باحتياطي يقدر بنحو 10 مليارات برميل. وقد وقعت شركة (بي بي) البريطانية عقداً مع الحكومة العراقية لتطوير الحقل قبل عام، بحيث يمكن مضاعفة إنتاجه إلى 500 ألف برميل يومياً خلال عامين. وبالإضافة إلى هذا الحقل العملاق هناك حقول أخرى مثل «جمبور»، «باي حسن الجنوبي»، «باي حسن الشمالي»، «أفانا»، «نانة» وحقل «كيوي بور». لكن العين الداعشية وجدت عيناً أخرى أكثر استشراساً وتهيؤاً وهي العين الكردستانية التي ترى أن كركوك هي العاصمة التاريخية للإقليم الشمالي للعراق، فلم تتردد في دخول المحافظة والسيطرة عليها والاستعداد لمواجهة داعش والمتحالفين، وكذلك قوات الحكومة المركزية في سبيل إبقاء البيشمركة في المدينة الغنية، خصوصاً وأن عائدات إنتاجها النفطي الذي تم تحويله بسرعة مذهلة إلى خط الأنابيب الكردي الواصل لميناء جيهان التركي، سيذهب إلى خزينة الإقليم في ظل السيطرة الكردية وبدء الحديث عن تشكيل إقليم سني لايعارضه الأكراد، وبالتالي تقسيم العراق بحكم الأمر الواقع إلى 3 أقاليم كردية وسنية وشيعية. أما كركوك التي يريدها تنظيم داعش ليغرف من خزائنها، وقد يكون قد غض الطرف عنها مؤقتاً، فهي مدينة متعددة الأعراق، وعمرها نحو 5000 سنة، يقطنها العرب والكرد والتركمان والسريان. ويتعايش فيها المسلمون والمسيحيون واليهود جنباً إلى جنب. بمعنى آخر كانت المدينة أنموذجاً للتعايش المجتمعي المندمج على أسس المواطنة، والوضع الداخلي اليوم يهدد هذا النسيج ويهدد العراق باقتتال لن يكون فيه منتصر في ظل غياب العقلية الجامعة التي تتعاطى مع المواطن في أي مدينة وقرية على أرضية المساواة التي لايمكن أن تأتي في ظل عمليات التهميش وإقصاء الآخر. إن مأزق العراق اليوم في غياب الديمقراطية الحقيقية وتوزيع الثروة واستشراء الفساد الإداري والمالي الذي حوّل العراقيين – رغم أنه يتمتع بثروات كبيرة بينها النفط الذي مخطط له أن ينتج منه 9 ملايين برميل في اليوم بحلول 2020 – إلى الشعور بالفقر، والفكر التكفيري لايمكن له أن ينفذ في النسيج المجتمعي إلا عندما تغيب العدالة الاجتماعية. وهذا هو التحدي الذي يواجه العراق في وحدته وقبول الآخر في دولة المواطنة المتساوية.