الشعراء الحقيقيون، حين يُديرون الكلام لا يُديرونه خبط عشواء، لأنهم يصدرون في ظني عن إمكان عقلي لغوي شديد الفرادة والامتياز والذين يتوهمون الشعر بما هو نظام لغوي مفارق لفكرة المعنى الذي يعادل رسالة الكلام، الذين يتوهمونه تجريباً بغير ضابط هم الذين ملأوا أسماعنا ب (التهليس والتدجيل) والشعوذات اللفظية والمعاني التي يمكن أن تقال كلاماً لا شعراً. وأنا كنت أقول إن الشاعر الحقيقي لا يقول الشعر إلا ناتجاً عن ظرفه العقلي الذي هو لحظة تصور ذهني وتراكم لسياقات اللغة في تراكيبها الشعرية، هذا هو التلازم بين ما نسميه ظرفاً عقلياً فرداً وطبيعة علم الجمال، والظرف الفرد هذا مباين لما نسميه ظرف أو نظام الثبات، ويكون الظرف العقلي مجزوءاً فرداً كذلك من الإمكان العقلي. غير أن الاعتبار لا يكون إلا لما نسميه الإمكان العقلي الفرد حال علوه المعرفي الجمالي، إذ نحن حين نلمح إلى ظرف العقل نحيل إلى أداء الإمكان الفرد ليس العام، أي أنه الأداء الشعري، وكل سياقٍ شعري محصلة لهذا بالضرورة. سيكون في وسعنا أن نقول إن كل معرفة جمالية تعادل بالشرط والضرورة ما نسميه ظرفاً عقلياً فرداً، وهو لغوي تخييلي بنفس القدر. ولذلك فإن هذه الفكرة تصادم صفة القانون بما هي مطابقة لشرط الحد المعرفي، وتبقي صفة القانون بما هي معادلة لشرط النطاق المعرفي. جماليات اللغة إذن إنما هي انبناء محصلة الظرف العقلي على تباين وتفاوت ملحوظ، ومن الغريب أن ندرك المسألة الجمالية بمعزل عن هذا الاعتبار. الإمكان العام يتكلف النظر في انبناء محصلة الظرف العقلي على تفاوتها وهو فاقد للشرط الذي يجعل نظره سائغاً، في حين أن ما نسميه إمكاناً عاماً لا يوازي ما نسميه إمكاناً فرداً. وقد كان أبو تمام يعني هذه المسألة حين قيل له: «لِم لا تقول ما يُفهم؟»، قال:»لِم لا تفهمون ما يُقال؟»، والنظر الذي يتطلب طبيعة الحد في المعرفة الجمالية لا يعدو أن يكون نظراً بغير أداة، لأننا نقول: إن جماليات اللغة مناقضة لاشتراطات المعنى بما هو رسالة لغة، فيما هي في الحقيقة تراكم معانيها التخييلية. إنه ليس التخييل ولكنه معناه، إذ يكون التخييل سبيله ويكون هو منتهاه، إلا أنه معنًى متفلت مضطرب موّار غير محدود. فهنا إذن المعنى المعرفي أو الموضوعي والآخر الذي هو التخييلي، إذ يكون التخييلي هو مُعادل الظرف العقلي الفرد بما هو لحظة التصور الذهني ومن ذلك فإن (الجمالية) هي معاني التخييل. إنها المعاني التي يُخيلها نظام التجاور بما هو محصلة الظرف العقلي الفرد، في حين تكون المعرفية المعاني التي يثبتها نظام العقل بما هو نظام الثبات والتواتر وهو حاكم للظرف العقلي الفرد ومُعطّل له فلا يكون شيئاً إلا إذا انفك عنه. ما هي الصلة إذن بين المجاز وقد استقر مفهومه في علم الجمال وذلك الذي نسميه المعنى الذي يخيله نظام التجاور؟ ربما هي الصلة بين المجاز والمعنى التخييلي. هل هما شيءٌ واحد؟ هل هما مفهوم واحد؟ أم هما مفهومان متباينان؟ أصل اللغة أنها تحيل إلى معنًى قار، هو نظام الثبات، وهو أصل لا يؤول إلى التبدد والذي أعنيه بكونه أصلًا أنه مطلب ضروري، لأنه ذو أثر، ومن ذلك الاعتبار يكون العَرَض، الذي هو المعنى التخييلي ما ليس كذلك، فهو تبدد الأثر وتحوله وانتفاء ضرورته. في وسعنا القول بكون الشعرية تحقق المقتضى، مُقتضى كون اللغة ذات طابع جمالي، أو أنها (أي الشعرية) مطابقة الإمكان العقلي الفرد لما نسميه نظاماً مستتراً غير مستقر، وهي بعد ذلك تنزُّل الأداء الجمالي في ذروة المفهوم الذي نسميه نظام الإغفال الذي هو طبيعة المعنى التخييلي. غير أنه يظلُّ ذلك أمراً مضطرباً، لأنه ليس في وسعك أن تتبين على سبيل القطع أين هي تلك الذروة الجمالية التي تجعل اللغة شعراً. ولأجل هذا فإنه كثيراً ما يتنافى الجماليون لأنهم يعالجون نظاماً لغوياً يعادل حالة شعرية، وكل حالة شعرية حقيقية لها نظامها الخاص الذي يتفلت من كل شرطٍ ونظام. الآن إذا قلنا إن المجاز هو المعنى التخييلي فإن هذا يعني القول بكون الشعر مطابقاً لما نسميه مجازاً فهو بهذا الاعتبار (أي الشعر) معنًى بلاغيّ، غير أنني أرى أن الشعر في الحقيقة مفهوم فوق بلاغيّ لأنه معانٍ تخييلية وكلُّ معنًى تخييلي إنما يحدث أثراً أكثر من أن يُوصل رسالة، فالمجاز تعزيز لفكرة المعاني القارة التي هي الأصل في نظام اللغة، فيما المعنى التخييلي لا يفعل هذا، لأنه يصنع أثراً لا يوصل رسالة، على الأثر هذا قد يكون قادحاً هو لما هو أوسع مما توصله المعاني وحدها. المعرّي حين كان يقول: ليلتي هذه عروسٌ من الزُنجِ عليها قلائدٌ من جُمانِ هل كان يُريد أن يُوصل لنا رسالة؟ أو يُحدث أثراً؟ وحين كان يقول قبل ذلك: علّلاني فإن بيضَ الأماني فنيت والظلام ليس بفاني هل كان يريد أن يقول لنا شيئاً؟ الحقيقة أنه كان يصدر في قوله عن حالة شعرية، فهو لا يريد أن يقول شيئاً، لا يريد إيصال رسالة، لا يريد بناء معانٍ قدر ما كان يريد الانفكاك عن حالته الشعرية الداهمة التي كانت تفور في ظرفه العقلي الفرد، هو في الحقيقة علم من أعلام الحنكة اللغوية وإلّا فكيف تكون ليلته عروساً من الزنج عليها قلائد من جمانِ؟ في وسع كذبة الشعوذات اللفظية أن يحدثونا عن هذا -إذا تواضعوا-.