جلست لساعات اليوم الأحد وأمس السبت أحاول البحث عن موضوع للكتابة فيه ككاتب متخصص في شؤون الإعلام الجديد، هناك عدد من الموضوعات الثرية لهذا الأسبوع، ولكن في لحظة ما تبدو كل هذه الموضوعات عديمة الأهمية ولا قيمة لها. أمس تسمرت مع الملايين أمام شاشة التلفزيون، ونحن نرى استعراض الديكتاتورية والأنانية السياسية، بقايا الأنظمة الحديدية في روسيا والصين تقف ضد الإنسان، والسفير السوري يحتفل بكلمات في منتهى الوقاحة، والعالم يقف عاجزا، بينما الإنسان يموت، لمجرد أن «بروتوكولات» المجتمع الدولي تتطلب أن توافق كل الدول الكبرى على أي قرار. كانت لحظات من الإحباط قادرة على شل الإرادة لفعل أي شيء، كانت صور القتلى وفيديوهات الإجهاز على الجرحى في حي مسجد خالد بن الوليد في حمص تسيطر على كل ما ينبض في الجسد، وكان الغضب يوشك أن يفجر العروق، وكان الحديث عن تطور الإنسانية يبدو عديم الجدوى أثناء انعقاد مجلس الأمن. ثم ماذا بعد؟ سألتني ابنتي، ووقفت مشدوها مع نفسي، ماذا بعد؟! أن ينتصر السفاح في معركته، ويتساقط المزيد من الجثث، وتسحق الأرواح، ويصبح لوجود الأحياء معنى أشبه بالعدم، وأن نعيش في إهانة دائمة، لأن آلة السحق والتدمير انتصرت على الإنسان، على الرغم من كل التطور الإعلامي والتكنولوجي والإنساني، وعلى الرغم من تظاهر كل السياسيين بأنهم يبالون، ويفعلون ما بوسعهم، على الرغم من كل شيء، تنتصر آلة السحق والدمار، ولكنه انتصار مؤقت، لأنه لا بد للإرادة الإلهية أن تتدخل، لا بد للرحمة الربانية أن تصنع صنعها، لا بد للقدر أن يفرض يومه، لولا هذا الشعور العميق لدى ملايين المسلمين المشدوهين بما يحصل، لكان اليأس قد دمرنا واخترق أحشائنا وتركنا موتى نمشي على الأرض. أعتذر لكم يا أعزائي عن عدم الكتابة، لأن الكتابة فعل إنتاج للحقيقة، فعل تطوير للفكرة، فعل بحث عن الضوء، فعل مداعبة المطر، وأنا لا أستطيع فعل أي من هذا بينما الدماء تسيل على الأرض، والعالم من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب يتفرج. قبل قليل شاهدت سيارة في سوريا دهست طفلا أمام الكاميرا وقتلته أمام أهله، شاهدت فقط، لم أستطع أن ألحق بقائد السيارة وأنتزع قلبه من وسط صدره، إن كان له قلب أصلا، وقبلها استمعت لسفير سوريا يتحدث عن الديمقراطية ويتلو أكاذيبه، لم أستطع أن أقف معه وجها لوجه، وأجادله وأكتب كلماتي السوداء على جبينه، وقبلها شاهدت الموتى يقتلون فلم أستطع حتى أن أمسح دموع الأهالي، ولم أستطع أن أساهم في دفنهم. ما قيمة الكتابة إن كانت مجرد حروف وكلمات؟ ما قيمة الكتابة إن فقدت الإنسانية القدرة على الفعل؟ ما قيمة الكتابة إذا استطاع العالم أن يختصر الآلام في مجموعة من الحسابات السياسية، وتنتهي الحكاية، لأن السفاح استطاع أن يتفوق على اللعبة، ويستخدم المساحات الحمقاء بين اللاعبين الكبار بمصير الإنسانية؟ ما قيمة الكتابة إذا كانت فعلا لإنتاج العجز واللافعالية. قبل اجتماع مجلس الأمن، هاجمت القوات المتوحشة أحياء حمص، معيدة بذلك ذكرى حماة، التي حصلت قبل ثلاثين عاما في نفس اليوم، ثم استمرت في هجماتها بعد الاجتماع الذي حققت فيه قوى الظلم النصر في مجلس الأمن، قبل ثلاثين عاما، لم تكن هناك كاميرات ولا إعلام وكانت اللعبة السياسية مختلفة، واليوم بعد ثلاثين عاما، يوجد «إنترنت» و»تويتر» وإعلام وقوى سياسية وربيع عربي وحديث يومي عن الديمقراطية، ولكن القصة نفسها تتكرر، وكأن شيئا لم يكن. لماذا الكتابة إذن؟ أعتذر عن عدم الكتابة اليوم، ففي لساني وقلمي كم هائل من الشتائم، والكثير من البكاء، وكميات من الخوف والضعف والكره، وهذا يعني أن ما سأكتبه لن يكون «لائقا» ولا «مقبولا» صحيح أنه لن يجرح المشاعر، لأن الوحوش لا مشاعر لها، ولكنه لن يليق بالكتابة، التي هي فعل الإنجاز، وليست فعل الاستسلام. أستطيع أن أكتب بالمقابل عن الامتنان، امتنان لملايين العرب الذين بكوا مع سوريا، وصلوا من أجلها، وعبروا عن نفس الكم من اليأس والخوف، وامتنان للملك عبد الله الذي أبى أن تحتفل الجنادرية بينما الضحايا لم تجف دماؤهم، وامتنان لكل سياسي وصانع قرار وإعلامي حاول أن يتذكر إنسانيته وهو يتعامل مع الحدث. أعتذر عن عدم الكتابة، ما أعلاه هي فقط آهات على شكل حروف، ودموع سالت على الحبر، وغضب ينتفض بين السطور.