الماضي والحاضر ربما يجتمعان، فما أشبه تلك الليالي بتلك البوارح، في تاريخ الغوغاء: الاختلاف مدعاة للتكفير والتفسيق والزندقة وربما القتل، وسيلة المفلسين الغوغاء علمياً وفكرياً الذين لا يستطيعون مجاراة المختلفين معهم، أن يتخلصوا منهم حتى لو على حساب دمهم المحرم بنص القرآن: {أنه من قتلَ نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتلَ الناس جميعاً} لاحظ النكرة التي غالباً ما تفيد العموم في قوله: «نفساً» فلم يخص النفس المسلمة فحسب؛ بل اشتملَ التحذير على النفس المسلمة وغير المسلمة، وهذا ما أردده دائماً بأن يكون النصُّ والنصُّ وحده ممثِّلاً وحيداً للدين الحنيف؛ أحدهم يستدل بالتاريخ -الذي لا يُعتبر ممثِّلاً للشرع- بدلاً من القرآن الكريم؛ ليبررَ لنا قتل المختلف معه فكرياً وعلمياً في قضايا الأصلُ فيها الاختلاف، ومن المعلوم أن التاريخ فيه الصحيح والسقيم، وفيه الغوغاء والمتطرفون وفيه العلماء المحققون؛ التاريخُ حافلٌ بالغوغاء الذين يكيلون ويوزعون الاتهامات الجزافية تكفيراً وزندقة حتى وصل بهم الأمر إلى التطاول على كبار العلماء تكفيراً وزندقة وقتلاً، وليست المشكلة في وجود هؤلاء الغوغاء عبر التاريخ؛ الإشكالية أن يتحولَ هؤلاء إلى قدوة ومصدرٍ للتشريع؛ من منا لا يعرفُ الإمام العلَمَ الجليل محمد بن جرير الطبري أبو جعفر المتوفي «سنة 310 ه» شيخ المفسرين، ومن أوائل المصنِّفين في علم التفسير وتفسيره المشهور المذكور: «جامع البيان عن تأويل آي القرآن»، هذا التفسير هو عمدة التفاسير، وكل من ألَّفَ في التفسير بعده نقلَ عنه أو استفادَ منه؛ إضافة لعلمه الغزير في اللغة والقراءات والفقه والأثر، قال عنه الخطيب البغدادي: «كان – أي الطبري- أحدُ أئمّة العلماء يُحكمُ بقوله، ويُرجعُ إلى رأيه لمعرفته وفضله، وكان قد جمعَ من العلوم ما لم يشاركه فيه أحدٌ من أهل عصره، وكان عارفًا بالقراءات بصيرًا بالمعاني فقيهًا في أحكام القرآن عالماً بالسنن وطرقها صحيحها وسقيمها». بيد أن الغوغاء قد اتهمت هذا الإمام الفذ الجليل بالإلحاد والرفض كما في الرواية التي ساقها عنه ابن الأثير في الكامل وابن كثير في البداية والنهاية؟! ومَنْ مِنَ المختصين في علوم القرآن الكريم من لا يعرفُ الشيخ محمد حسين الذهبي المتوفي «سنة 1977م» صاحب أهم مرجع في مناهج المفسرين «التفسير والمفسرون»، فقد عمل الشيخ الذهبي أستاذاً في كلية الشريعة جامعة الأزهر، وأُعيرَ إلى جامعة الكويت، بعد عودته عُينَ أستاذاً في كلية أصول الدين، ثم عميداً لها، ثم أميناً عاماً لمجمع البحوث الإسلامية، ثم أصبح وزيراً للأوقاف وشؤون الأزهر، ومن مؤلفاته: «الاتجاهات المنحرفة في تفسير القرآن الكريم دوافعها ودفعها» هذا العالم الباحث قد طالته يدُ التكفير والجهل والغدر؛ فقد اغتيلَ الشيخ محمد حسين الذهبي في الثالث من يوليو «سنة 1977م» من قبل جماعة التكفير والهجرة بعد اختطافهم له من منزله في ضاحية حلوان جنوبالقاهرة واقتادته إلى جهة غير معلومة، وفي اليوم التالي أعلنت جماعة التكفير والهجرة مسؤوليتها عن الحادث، وبدأَ رجال الأمن رحلة من البحث الدؤوب عن الشيخ الذهبي داخل أوكار الجماعة إلى أن عثروا على جثمانه مصاباً بطلقٍ ناري في عينه اليسرى في إحدى الفيلات في منطقة الهرم، وقد تمَّ القبضُ على أمير الجماعة شكري أحمد مصطفى ووجهت تهمة قتل الشيخ الذهبي إليه. إنني أريد أن أقول لذلك الأكاديمي الذي عرَّضَ بكاتبين معروفين على مستوى الصحافة السعودية: اتق الله في نفسك وفي الوطن والمواطنين؛ فمعظم النار من مستصغرِ الشَرَرِ، واختر لنفسك أن تكون من العلماء لا من الغوغاء، العلماء الذين لا يؤمنون بلغة القذف والشتم التي تصلُ لدرجة التكفير والاقتتال بيننا كمسلمين موحدين؛ لكننا نختلف في مفاهيم مسائل في فروع العقيدة والفقه وليست من الأصول الثابتة المطلقة المعلومة من الدين بالضرورة، العلماء الذين يقدرون المختلف معهم بأنهم على أقل تقديرٍ: أصحاب شبهة، هل سمعتَ أحداً من العلماء «المعروفين» قد طالبَ بقتل أحد المعتزلة أو بتحريق كتبه؟ العلماءُ الراسخون يؤمنون بحق الاختلاف، وهذا ما فعله كبار العلماء في اختلافاتهم، يقول يونس الصدفي: ما رأيتُ أعقلَ من الشافعي؛ ناظرته يومًا في مسألة ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي، ثم قال: «يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخوانا، وإن لم نتفق في مسألة». إن الاختلاف بين أفكار البشر وثمرات عقولهم من حيث الأصل سنة ماضية وجارية فيهم، وبه يتم العمران في الأرض، ففي الآية الكريمة: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين. إلا من رحم ربك}، يقول ابن كثير في تفسيره: «ولا يزال الخلفُ «أي الاختلاف» بين الناس في أديانهم واعتقادات مللهم ونحلهم ومذاهبهم وآرائهم». وليست الغاية من خلقهم أن يختلفوا، ولكن هذه السنة الماضية هي الأصل في المدارك والعقول المتفاوتة، ولهذا قال الشيخ المفسر السعدي: «يخبر تعالى أنه لو شاء لجعل الناس كلهم أمة واحدة على الدين الإسلامي، فإن مشيئته غير قاصرة، ولا يمتنع عليه شيء، ولكنه اقتضت حكمته، أن لا يزالوا مختلفين».