نحن الآن في الخامس من ديسمبر من العام 2263 للميلاد. أنظر اليوم للعالم وأتذكر جدي رحمه الله وهو يحكي لنا حكايته التي ننتظر موعدها مساء كل يوم. حكايته الأخيرة كانت مختلفة ولم نستطع أن نحبها وكنا رغم ذلك نتسابق في موعد الحكاية بلهفة شديدة وأمل في أن ينهيها سريعاً، ليعود بنا إلى حكاياته السابقة التي لا نمل منها. أنهاها ذلك اليوم ثم سافر إلى قصر مولانا السلطان «أوغلو» في «الآستانة» ولم نشاهده منذ ذلك اليوم، لكن حكايته الأخيرة لم تغادر مخيلتنا وكثيراً ما نتسامر وأبناء عمومتي ونتذكر مقتطفات منها خاصة مع سخونة الأحداث المحيطة بنا. كثيراً ما تساءلنا هل كانت حكايته الأخيرة سبباً في اختفائه حتى وردنا خبر وفاته رحمه الله في إسطنبول حاضرة الخلافة العثمانية الثانية. هناك شائعات عديدة تتردد في قريتنا الصغيرة أن جدي ضحية تصنت عثمانية لأنه كان ناشطاً سياسياً ضد الدولة العثمانية الثانية في بدايات القرن الثاني والعشرين. يقول جدي إن السلطان «أردأ الأول» أول سلاطين الدولة العثمانية كان محامياً مغموراً في بداية حياته وتعرض للسجن بسبب ترديده لقصيدة شاعر تركي يتغنى بأمجاد الماضي العريق. خرج من السجن وهو يحمل حلم إعادة الخلافة والتحق بحزب الخلافة الذي تصادف وجوده مع جمعية يقول جدي إن مؤسسها شخص يدعى حسن البنا، أراد أن يقيم خلافة بدلاً من الخلافة العثمانية، التي سقطت قبل إنشاء جمعيته بأربعة أعوام. عقد واحد كان كافياً للتقارب بين السلطان أردأ الأول وبين مرشد الجمعية التي مضى على تأسيسها ثمانية عقود كاملة. يقول جدي: جمعتهما المصلحة المشتركة فكلاهما يسعى للخلافة فكانت الجمعية وأعضاؤها والمنتسبون إليها والمتعاطفون معها يروجون للسلطان أردأ الأول بينما هو يدافع عنها بشراسة. منذ القصيدة التي سُجن بسببها وطموح السلطان تتسع مساحته ويجد من يسعى خلفه وأمامه وبين يديه خاصة بعد أن فشل في الالتحاق باتحاد الفرنجة في قارة كان اسمها أوروبا فاتجه إلى الشرق. في ذلك الزمان كانت هناك قوة وحيدة عظمى تسمى الولاياتالمتحدةالأمريكية وكانت حينها تتلقى الصفعات الواحدة تلو الأخرى حتى عصفت بها الهزة الاقتصادية الرابعة والأخيرة فتفككت وأصبحت أثراً بعد عين. يقول جدي: عزفت تلك الدولة عن الوجود في الشرق الأوسط وقررت إلغاء قاعدتين لها في شاطئ من شواطئ الخليج العربي، إلا أن المسؤولة عن الشاطئ أقسمت أن تتكفل بكامل تكاليفهما من رواتب وبدلات ونفقات ووقود وصيانة وكل ما يلزم لتبقى ولو صورياً. ولم تكتف بذلك بل واستمرت في دعم الجمعية واتفقت مع السلطان أردأ الأول على أن يعطيها كعكة جيدة فيما لو تحقق حلمه، وهو نفس الاتفاق الذي عقدته مع ما كان يسمى بالولاياتالمتحدة. استمرت تلك المسؤولة في تجنيد ودعم كل من يقدم السلطان أردأ الأول على أنه أفضل من يحكم العالم الإسلامي. كان العرب حينها مولعين بالخطابات ويعشقون الوهم فكان السلطان يستغل ذلك فيهم ويذكر دولة الخلافة العثمانية تلميحاً أو تصريحاً وكان كلما فاز هو أو حزبه في أي انتخابات لا يفتأ يردد أن سراييفو فازت اليوم كما فازت إسطنبول وبيروت فازت كما فازت أزمير ودمشق فازت كما فازت أنقرة فتلتهب الحناجر بالصراخ والأكف بالتصفيق، حتى نجح هو والمروجون لسلطانه في التغرير بالعامة والبسطاء والحالمين. وبعد سنوات فقط من التساهل مع المروجين له ولإنجازاته، تمكن من تحقيق حلمه وأنشأ الدولة العثمانية الثانية. ومنذ ذلك الحين، يقول جدي، وحتى الآن يعيش العرب أسوأ مرحلة في تاريخهم فقد أعاد التاريخ نفسه ورأى العرب الوجه الآخر للأعجمي الذي حكمهم فكان السلطان أردأ الأول أسوأ الخلفاء على الإطلاق. كما أن من جاء بعده لم يكن بأفضل منه، فصورة حكام الدولة العثمانية الأولى مثل مصطفى الرابع ومحمود الثاني وعبدالمجيد الأول ومراد الخامس وغيرهم تكررت في الدولة الثانية. وقد شهد القرن الحادي والعشرون والثاني والعشرون سلاطين طغاة منحرفين، جعلوا مقدرات العالم العربي في يد شخص واحد يغدقها على نفسه وبني جنسه. يكمل جدي حكايته قائلاً انتشر الفساد في أرجاء الإمبراطورية وانعدمت الحريات وأصبح العربي يخاف من ظله فالجواسيس ووسائل التصنت في كل مكان. زاد العرب ضعفاً على ضعف وحرمهم العثمانيون الجدد من الوظائف المهمة وانتشر الجهل بينهم حتى ساد التخلف والفقر والمرض ديارهم. لم يكن يهمهم إلا استنزاف ثروات العرب ولم يقدموا إلا القليل من الخدمات في مقابل كثير من الفتن والتفرقة بينهم. يواصل جدي فيقول: طيلة القرنين الماضيين أعاد العثمانيون الجدد سيرة أجدادهم في تعاملهم مع العرب واتبعوها بدقة متناهية منذ عهد السلطان العثماني أردأ الأول وحتى عهد مولانا أوغلو. كان عدد الناشطين المطالبين بعودة حكم العرب للعرب قليلا. وكان معظمهم ملاحقين فلم يكونوا قادرين على تكوين جبهات للمعارضة أو ممارسة أي أنشطة تنويرية للشعوب العربية المغلوب على أمرها. توسع العثمانيون الجدد واستولوا على الفاتيكان وزحفوا على أوروبا وسيطروا عليها بعد تفكك الولاياتالمتحدة. وفي كل خطوة يحققها الأتراك العثمانيون ينحدر العرب أكثر فأكثر حتى أصبحت البلاد العربية كما كانت قبل أربعة قرون من اليوم. أما التهجير فحدث ولا حرج فقد تكررت حادثة تهجير سكان المدينةالمنورة في الدولة العثمانية الأولى في أكثر من مدينة، وأصبح التهجير القسري الجماعي سمة من سمات الدولة العثمانية الثانية، وأصبح هدم البيوت على رؤوس سكانها جزءا لا يتجزأ من أي مشروع تقيمه، فالعرب عموماً وأهل الجزيرة العربية على وجه الخصوص أصبحوا مواطنين من الدرجة الثالثة وربما الرابعة. تجربة المدينةالمنورة مع جنود فخري باشا في الدولة العثمانية الأولى تكررت في دولة السلطان أردأ الأول، فاقتحم الجنود الأتراك البيوت وفرقوا الأسر وخطفوا النساء والأطفال وأصبحت السيدات الحرائر يعملن لدى الجيش التركي لإعالة أطفالهن أو من بقي منهم لديهن. كانت تلك حكاية جدي الأخيرة. ورغم أنها ليست من النوع الذي يعشقه الأطفال إلا أنه أصر رحمه الله أن يحكيها لنا. ربما لأنه كان قد تعب من النضال ضد المستعمر العثماني الجديد وأراد أن يحكي لنا تاريخاً غير منشور. أو لعله علم أنها أيامه الأخيرة معنا فأراد أن ينهيها بهذه الحكاية الجافة. ومع ذلك بقيت في أذهاننا جميعاً نتذكرها كلما التفتنا حولنا وشاهدنا كيف أصبح حالنا بعد 249 عاماً من نشأة تلك الدولة البغيضة، بفضل المروجين للسلطان أردأ الأول وحلم الخلافة العثمانية الجديدة.