حينما نتناقش مع بعض طلاب العلم الشرعي الفضلاء، ونتداولُ بالأدلة الشرعية أن لحم الجزور= الإبل لا ينقض الوضوء؛ فإنَّ الواحد منهم – على الأغلب- لن يقبلَ منك ولن ينظرَ في رأيك إلا بواسطة عالمٍ شرعي قد اشتهرَ علمُه وقال بذلك القول؛ بيد أنك لو قلتَ له: إن ابن تيمية يرى أن لحم الجزور لا ينقض الوضوء – كما نقله عنه المرداوي في كتابه الإنصاف- فإنه كمن أَخذَ إبرةَ بنجٍ مخدِّر؛ حينها سيسأل (وسيعطيك اهتماماً ووجهاً) وسيسألك عن المصدر الذي استقيتَ منه رأي ابن تيمية وهل تراجعَ عن قوله هذا أم لا؟ لقد تأمَّلَ ذلك المتعلمُ وأعملَ جهده في البحث عن القائل = الشخص؛ لكنه لم يبحث ويُعمل جهده ويُتعبُ نفسه في البحث عن المقول = الفكرة أو الحجية الشرعية، وفي حادثةٍ لي شخصياً ناقشتُ أحدَ طلبة الدكتوراه في الفقه المقارن حول حكم تارك الصلاة تهاوناً وكسلاً؛ فاحتجَّ عليَّ بأن سماحة شيخنا ابن باز رحمه الله يرى كفر تاركها تهاوناً وكسلاً، فقلتُ له: إذا كنتَ ستلجأُ في الاحتجاج إلى الأشخاص؛ فسأحتجُّ عليك بأن أبا حنيفة ومالكاً والشافعي وأحمد – في روايةٍ عنه – وابن تيمية لا يرون كفر تارك الصلاة تهاوناً وكسلاً، وبغضِّ النظر عن الراجح والمرجوح في تلك المسائل الفقهية؛ فإنَّ إشكالية الباحثين في العلم الشرعي عندنا -في الغالب- أنهم يتعاطون ويتأملون بحثاً في كلام الأشخاص أكثر من تعاطيهم وتأملهم في الأدلة والبراهين حتى وإن ادَّعى بعضهم خلاف ذلك، وهذا موجود ومشاهد سواءً كان على المستوى الأكاديمي في كثير من كلياتنا الشرعية، أو كان على مستوى الدروس العلمية الشرعية التي تُلقى في المساجد وغيرها؛ ومن حق كل باحث في العلم الشرعي أن يرجح ما يراه راجحاً حسب القواعد العلمية المتفق عليها لكن ليس من حقه أن يحتجَّ علينا في مسألةٍ شرعيةٍ بقول أحد العلماء؛ ذلك هو التقديس بعينه مهما بلغ ذلك الشيخ من العلم والفهم؛ فمصادر التشريع المتفق عليها ثلاثة: القرآن والسنة والإجماع؛ وليس من بينها قول العالم المتمكن أو المشتهر، وحتى مصادر التشريع المختلف فيها لا يوجد من بينها: حجية قول العالم لشهرته ومكانته، لذا لما اعترضَ عروة بن الزبير على ابن عباس رضي الله عنه محتجاً بقول أبي بكرٍ وعمر رضي الله عنهما أجابه ابن عباس بقوله الشهير: «يوشِكُ أن تنزلَ عليكم حجارةٌ من السماء، أقول: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟!» وأبو بكر وعمر هما من هما فما بالك بمن دونهما من العلماء والمتعلمين؟ لقد أدرك ابن عباس أن حجية النص الشرعي فوق كلِّ حجة، مع أن أبابكرٍ وعمر رضي الله عنهما من أعلم الصحابة تفسيراً وفقهاً؛ لكن ابن عباس عرفَ أن مسائل الاجتهاد ليست ملزمةً باعتبار الشخص الأعلم والأشهر والأقدم، وليس معنى ذلك ألا نستفيد من العلماء وأقوالهم لكن الاعتماد في الاستدلال يجب أن يقتصر على الأدلة والبراهين دون تقديسٍ لأحد وأن نراعيَ في ذلك جانب فهم العالم وحال مقاله وفتواه؛ لذا قال الشافعي: «قولي صواب يحتمل الخطأ وقول غيري خطأ يحتمل الصواب» هنا الشافعي يعطينا رسالةً أن أقواله ومذهبه مجردَ اجتهادٍ قابلٍ للصواب والخطأ، وقد قال أحمد بن حنبل: «لا تقلدني ولا تقلد مالكاً ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا»؛ هاهم العلماء ينكرون تقديس أقوالهم؛ لأنهم عرفوا أن الحقيقة نسبية فربما يظهر الحق عند غيرهم، لذا أخبرونا بأن مذاهبهم وأقوالهم مجرد اجتهادٍ قد يكون زمنياً في وقتهم وقد يكون صالحاً لغير وقتهم. تقديسُ الأشخاص – يا إخوة – والمناهج والقواعد الاجتهادية غير القطعية آفة العلم وربما تؤسس لنا جهلاً مركباً ركيكاً يجهل ويجهل أنه يجهل؛ فلقد قامت الحضارات على مناهج البحث العلمي الذي يعتبر أن كلَّ علمٍ – غير يقيني- قابلٌ للتكذيب والشك، النقد العلمي بوابة الوصول للحقيقة، أما تقديس الأشخاص والآراء والوقوف عليها يعني تعطيل العقل وتحجير الفكر وإلغاء النفس والشخصية؛ بل لا فائدة من التعلم إذا كنا سنقف على ما وقفَ عليه السابقون؛ وفي القرآن الحكيم توجيهٌ للعقل بالانطلاق والتفكير قال تعالى: {إنَّ شرَّ الدوابِّ عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون} وفي القرآن نهيٌ عن اتخاذ العلماء الأحبار والرهبان حجة:{اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله}، وفي القرآن -أيضاً- نهيٌ عن التقليد الأعمى دون دليلٍ وبرهان:{إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون}. أختمُ ذلك بكلمة للمفكر الدكتور مصطفى محمود يصف فيها بيئة الثقافة والعقلية العلمية في المجتمع العربي يقول فيها: «إذا رأيتَ الناسَ تخشى العيبَ أكثر من الحرام، وتحترمُ الأصول قبل العقول، وتقدّسُ رجلَ الدين أكثر من الدين نفسه فأهلاً بك في الدول العربية».