قبل البدء، أود أن أنوه عن التفاعل الكبير مع المقال السابق «لكي لا نقع في الهاوية» من خلال وسائل التواصل الاجتماعي أو التعليق المباشر في صفحة المقال. وقد أوضح حجم التفاعل وامتداده جغرافياً، أن قضية المستقبل هاجس محسوس وملموس بين أفراد المجتمع إذا جاز لنا اعتبار تلك العينة ممثلة للمجتمع. التفاعل كان إيجابياً بشكل كبير، والجميل في وسائل التواصل الاجتماعي أنها مفتوحة للجميع بكل شفافية وحرية. وأرجو أن تصاب صحافتنا الوطنية بهذه العدوى المباركة. هذا من حيث الجمهور، أما من جانب المسؤولين المعنيِّين بالموضوع فلسان حالهم يقول: إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب. لكن علينا ألا نستعجل الأمر، فقد يكون هناك من القضايا ما هو أهم من السقوط في الهاوية لا قدَّر الله، أو أن الأمر يحتاج إلى دراسة وتحليل قبل أن يكون لهم ردٌّ أو تساؤل. أنا وغيري ممن ينشدون الإصلاح، ليس من واجبنا أن ننتزع السؤال أو الإجابة أو الإيضاح من فم المسؤول، لكن واجبنا الوطني يحتِّم علينا قول ما نعتقد أنه كلمة حق ونُلحُّ في طلب الإجابة فهذا حق لكل مواطن، فإن أصبنا فلنا الأجر وإن أخطأنا فلنا أجران. أعود بعد هذه المقدمة إلى سؤال العنوان «هل السقوط في الهاوية أمر محتوم؟»، والإجابة بشكل مباشر «هي بالنفي ولكن». هي بالنفي إن عدَّلنا الاتجاه وغيَّرنا المسار وقمنا بالإصلاح المطلوب لتفادي الوقوع في الهاوية الاقتصادية، ولكن إن ظللنا على نفس الطريق سائرين فالإجابة بنعم. ويبقى السؤال: ما هو الإصلاح المطلوب؟ وهنا أقول إن كل شيء في هذه الدنيا يبدأ بالإنسان وينتهي إلى الإنسان. في علم الاقتصاد نقول: إن الإنسان هو هدف التنمية وهو وسيلتها، من هو الإنسان المعني في هذا المقال والمقام؟ الإنسان هو المواطن الذي يشكِّل تاريخ هذا الوطن ودينه ولغته وهويته، ويشكل مستقبل هذا الوطن ومصيره وحلمه واهتمامه ومسؤوليته. هذا هو المواطن، هو الرجل وهو المرأة، هذا المواطن هو الشرقي والغربي والشمالي والجنوبي، هذا المواطن هو كل الأطياف والأعراق من البشر التي جعلت من أرض هذا الوطن وطناً لها، ومن تاريخ هذا الوطن تاريخاً لها، ومن لغة هذا الوطن ودينه هوية لها. هذا هو المواطن الذي يجب أن يكون العمود الفقري والمكون الرئيس والأساسي في منظومة الإصلاح والتنمية، في الاستراتيجيات وفي الخطط لبناء مستقبل الأمة السياسي والاقتصادي والاجتماعي. إذا كان هذا الثقل والوزن للإنسان المواطن في معادلة الإصلاح والتنمية المستدامة، فما هي أهم القواعد التي يجب بناؤها في هذا الإنسان المواطن الذي يُبنَى على أكتافه وبجهده حاضر الأمة ومستقبلها؟ ثلاث قواعد أساسية وجوهرية، إن بُني على أساسها وبموجبها المواطن صلح جسد الأمة كله، وإن فسدت فسد الجسد كله ألا وهي: أولاً: صحة العقل الإنسان يولد بعقل جاهز لاستقبال التكوين المعرفي ومباشرة دوره في توجيه الإنسان وإدارة أفعاله وأقواله. يكتسب العقل نضجه وجاهزيته من كل ما يحيط به منذ ولادة الإنسان، وفي بعض الأقوال: وهو في بطن أمه، ومن أهم تلك المدخلات التي تبني عقل الإنسان وقدراته «التعليم» الذي يبدأ منذ الصغر وكما قيل «العلم في الصغر كالنقش في الحجر». في بداية القرن العشرين في المملكة خصوصاً في القرى كان من يعرف القراءة والكتابة يشار إليه بالبنان، وكان العلم يؤخذ على يد رجال الدين في المساجد أو الكتاتيب. تغيرت العلوم والمعارف فتغير بذلك الإنسان وتغير الزمن وتغير العالم من حولنا. العلوم والمعارف القديمة بنظرياتها ومقدماتها ونتائجها أُخضعت من قبل العقل البشري العالم للمراجعة والتفكيك والتحليل والنقد والتطوير، نحا العقل البشري نحو العلوم التطبيقية الرياضية والهندسية والفيزيائية والكيميائية والذرية.. إلخ.. فتوالت الاختراعات وقامت الصناعات وظهرت المنتجات والخدمات التي غيرت الإنسان والحياة البشرية، وبناءً عليه تغيرت المناهج الدراسية في العالم المتقدم اليوم صناعياً وتقنياً في كل المراحل التعليمية خصوصاً الابتدائية، لأنها الأساس في المنظومة التعليمية والتربوية، وأصبحت المعرفة بمحتواها العلمي وليس الأدبي والفقهي كما كان سابقاً، لها السيادة والريادة في تكوين العقل العلمي المنتج المبدع المخترع. أما المناهج التي ينهل منها أبناؤنا وبناتنا اليوم في جميع مراحلهم التعليمية من الابتدائية حتى الجامعية، فهي في الزمن الماضي تزحف خطوات إلى الأمام بينما العالم يسير بسرعة الضوء محاولاً كشف أسرار الأجرام السماوية بعد أن أصبحت الأرض لا تُشبع نهمه العلمي وتعطُّشه للاكتشاف والمعرفة. إن نظامنا التعليمي بلا شك يحتاج إلى إصلاح جذري وتغيير منهجي يصل إلى عمق المشكلة المرتبطة بالمنهج الفقير في محتواه العلمي والفلسفي والمتخم في محتواه الأدبي والفقهي. المحتوى الأدبي والتراثي في مناهجنا الدراسية اليوم يحتاج إلى تحديث وتطوير، والمحتوى الفقهي يحتاج إلى أن ترفع عنه عقلية التحريم القائمة على باب سد الذرائع ليحل محلها فقه التيسير الذي يقوم على قاعدة فقهية هي في نظري أكثر ملاءمة لحال الإسلام والمسلمين في هذا العصر، هذه القاعدة تقول إن الأصل في الأشياء أنها حلال إلا ما جاء نص صريح في القرآن الكريم بتحريمه أو ورد بذلك حديث صحيح عن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. وبما أن الأمر لا يتعلق بمخالفة نص قرآني أو حديث نبوي صحيح، وإنما بفقه لرجال أجلَّاء عِظام يؤخذ منهم ويرد عليهم، فالأمة في حِلٍّ من أمرها في الأخذ من الفقه الإسلامي ما يحمي المصلحة العليا للأمة الإسلامية ويدفع بها إلى الرقي والتقدم الحضاري والاقتصادي. هذا ما تعلمته طالباً في مدرسة «دار الحديث» في المدينةالمنورة، وفقهته على يد فقهاء أجلَّاء في مسجد النبي محمد صلى الله عليه وسلم. لذا فإنني أقول إن مناهجنا الدراسية يجب أن يكون ضمن محتواها وتكوينها فقه إسلامي معاصر يحافظ على العقيدة من جهة ويفك قيد العقل من ذهنية التحريم القائمة على المكروه وسد باب الذرائع. الثانية: صحة الأبدان المواطن إن اعتلت صحته عجز عن العمل وأصبح بحكم عجزه الصحي غير قادر على التعلم والإنتاج، وهذا يؤدي بالتالي إلى عجز في بناء عقل الإنسان بناءً علمياً مبدعاً، فالعقل السليم في الجسم السليم. إن القاعدة الثانية في استراتيجية الإصلاح لتفادي الوقوع في الهاوية هي الاستثمار في توفير الخدمات الصحية بكل مستوياتها من الأوليَّة حتى التخصصية، وأن تكون هذه الخدمات متوفرة لكل من يحتاجها من المواطنين، وألا تكون ميسَّرة لأصحاب السلطة والجاه والمال عزيزة على العامة والمحتاجين من الشعب. الرعاية الصحية في المملكة هي أقل بكثير من المطلوب واللازم والضروري لبناء الإنسان المنتج المتعلم، وأقل بكثير من حاجة المواطن الصحية. المرض يدمر طاقة الإنسان وقدرته على التعلم ويمنعه من الإنتاج ويشلُّ حركته ويعيق إبداعه. الاستثمار في توفير الرعاية الصحية لجميع المواطنين، بدءاً بالفقراء والمحتاجين، هو ضمان لصحة وسلامة المجتمع، وتهيئة للإنسان ليكون قادراً على التعلم وكسب المهارات ليكون مواطناً صالحاً منتجاً، وهذه ركيزة أساسية في استراتيجية المستقبل. الثالثة: حرية الإنسان يفقد الإنسان كل مقوماته وقدراته وكرامته وإنسانيته إن هو فقد حريته، الحرية لا تعني المجون والفسق والعبث، وعدم الالتزام الديني والأخلاقي والإنساني والوطني، بل هي على النقيض من ذلك، فالإنسان الحر هو إنسان مسؤول وملتزم، الحرية تكسبه الكرامة وتلزمه بالمسؤولية، فكل معتقل مسلوب الحرية، تسقط عنه المسؤولية، هذه شريعة الله في خلقه وشريعة العدل بين الناس. فلو هُيِّئ للإنسان عقل عامر بالعلم والمعرفة «الأولى» وألبس جسمه الصحة والعافية «الثانية»، ثم سلبت منه حرية القول والفعل والفكر والرأي، لم ينفعه عقله ولن ينفعه جسمه وسيظل إنساناً معاقاً مكبلاً غير منتج، عبداً يساق إلى غير إرادته، فاقد الرأي والإخلاص والإبداع وبذلك يفقد الإنسان المواطن مقومات الحياة الحرة الكريمة على أرضه ويفقد معها ولاءه للوطن وللمجتمع. وفي هذه الحالة الموسومة بضعف أو انعدام حرية الإنسان وحقوقه وكرامته، لا يمكن بناء وطن من مواطنين فاقدي الحرية والإرادة والولاء. وبناءً عليه فإن حرية المواطن، يجب أن تكون القاعدة الأساسية التي تبنى عليها جميع مؤسسات السلطة السياسية بكل أشكالها: التنفيذية والتشريعية والقضائية، وهذا ما أسميه بالإصلاح السياسي. إن الإصلاح السياسي هو القاعدة الأساسية والأرضية الصلبة التي يجب أن يبنى عليها كل إصلاح يهدف إلى بناء الإنسان المواطن الصالح المنتج المبدع المتحضر لكي يُبنَى منه وبه المجتمع الصالح المنتج المبدع المتحضر، وعندها يبقى البترول أو يذهب، ستكون التنمية مستدامة ويكون الطريق إلى المستقبل آمناً من كل هاوية. من المسؤول عن الأمر بالإصلاح وتنفيذه؟ دعوات الإصلاح كثيرة ودعوتي واحدة منها، لكن مربط الفرس وجوهر القضية هي في: من هو القادر على الأمر بتنفيذ الإصلاح ومتابعة تنفيذه والوقوف في وجه من يُعيقه؟ والإجابة المباشرة على هذا السؤال هي: إن المسؤول والقادر على تنفيذ الإصلاحات المهمة هو صاحب القرار الأول والمسؤول عن رعاية وحماية مستقبل الأمة. في الماضي كانت دعوات الإصلاح محصورة في عدد من المثقفين والمهتمين بالشأن العام، وقد يجري تجاهل هذه الدعوات أو تأجيل النظر فيها من باب أن هناك متسعاً من الوقت، أو أن الأمر لا يعني غالبية الشعب. اليوم الوضع يختلف كلياً من وجهة نظري؛ لأن الدعوة إلى الإصلاح أصبحت عامة وليست محصورة في دوائر ضيقة، يلمسها كل مهتم ومتابع للشأن العام. يلمسها في حديثه مع العامة، مع الطلاب، مع المثقفين ومع الأغنياء ومع الفقراء ومع بعض المسؤولين. إن تراكم المشكلات وانتشارها سيؤدي إلى الإحباط والقنوط لدى العامة، ومع تفاقم الأمور من جهة وعدم شعور المواطن أن شيئاً من الإصلاح الحقيقي قد بدأ، سيفسح المجال للمتطرفين للدخول إلى الساحة. لذا أقول وأكرر القول إن الإصلاح يحتاج إلى إرادة سياسية عليا فاعلة ترى بوضوح الخطر الداهم على هذا الوطن وتأخذ بيدها قرار الإصلاح وتنفيذه.