جاء في الأثر أن الإيمان يمانٍ والحكمة يمانية والفقه يمانٍ، كما رُوي عن أحد السلف قوله في أهل اليمن: لكم من السماء نجمها، ويقصد نجم سهيل، ومن الكعبة ركنها ويقصد الركن اليماني، ومن السيوف صمصامها ويقصد سيف عمرو بن معدي كرب. وإنه عند قراءة تاريخ اليمن منذ فجر التاريخ لا تجد إلا تاريخاً للحكمة والأخلاق الرفيعة التي تفاخر بها اليمن سائر الأرض. عراقة الأرض وتاريخها الضارب في الزمن لم يشهد انقسامات تجعل مما تميز به الشعب اليمني عرضة للتغيير. ذلك لأن اليمني، تاريخياً، لم يتقمص منهجاً مستورداً ولم يضع نفسه ألعوبة في يد الأعاجم أو الفرق الضالة المضلة، ولم يسمح لأرضه أن تكون مأوى لأهل الشقاق والنفاق العاملين على تفتيت الأمة وتقسيمها وشرذمتها. تاريخ اليمن مرتبط دائماً باستقلالية الشخصية اليمنية التي تنهل من أرضها ثقافتها وتوجهها وميولها فتكتسب الحكمة والإيمان والمعرفة. فإذا تغيرت المعادلة تبعها، منطقياً، اختلاط الحابل بالنابل، ثم تبدأ صفات ليست من صفات ابن اليمن، التاريخي، في الحلول محل أخرى، إلا أن الأصل له الغلبة دائماً. ويبدو أننا الآن نشهد مرحلة من تلك المراحل النادرة جداً في تاريخ ذلك الكيان العظيم، حيث استغلت بعض القوى والجهات الخارجية الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية خلال العقود القليلة الماضية لتمارس هوايتها في شق الصفوف وخلخلة النسيج الاجتماعي اليمني واستباحة الأرض اليمنية والدم اليمني، ضمن خطة عمل شاملة تستهدف العالم العربي برمته. ولكي لا نذهب بعيداً فلنراجع التاريخ القريب جداً، ففي خلال العقود الثلاثة الماضية عملت بعض الدول والتنظيمات على استغلال موقع اليمن الاستراتيجي واستطاعت أن تدغدغ عواطف البسطاء الذين يتصفون بصدق النيات والتأثير على قادة الرأي في المجتمع اليمني بمختلف الوسائل، حتى أدى ذلك إلى تقمصهم أدواراً معينة وشخصيات لا تتفق وطبيعة الرجل اليمني الأصيل، وبالتالي إلى التغرير بمواطنيهم وأهليهم. ولعلنا نتذكر جيداً كيف استطاعت إيران أن تجتذب الحوثي إلى قم والقيام بعملية أدلجة مركزة أحالته إلى مخلب إيراني استخدمته في ست حروب مع الدولة اليمنية، ثم مواجهة القوات السعودية في حرب عصابات. ويبدو كذلك أن وجود بعض قيادات الحوثيين في الدوحة بعد أن رعت وساطة للصلح بينهم وبين الدولة في عام 2005 الذي اقتضى استقبال زعماء الحركة الحوثية في قطر وإقامتهم هناك مقابل وقف الحرب، يبدو أن ذلك جعل منهم أدوات أخرى في يد المخطط الاستراتيجي للسياسة القطرية، فالدعم العسكري والمادي الذي تلقته الحركة من الدوحة جعلها تسيطر على مناطق واسعة في الشمال اليمني، وتمكنت من تهديد العاصمة صنعاء. ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن المخلب الإيراني لا يحتاج إلى مزيد من إلقاء الضوء عليه، فلا يوجد في اليمن أو السعودية من لا يعلم أن الحوثي شوكة في خاصرة اليمن الشمالية وخاصرة السعودية الجنوبية، وأنه إنما نشأ ليكون الذراع الإيرانية في اليمن ثم، لاحقاً، دمية الدوحة فيها. التدخلات في الشأن اليمني بغرض التفتيت إلى كيانات صغيرة لم تتوقف عند دعم حركة الحوثيين، بل تجاوزت ذلك إلى دعم التنظيم الدولي فرع اليمن وتزويده بما يحتاجه لإقامة أكثر من أربعين مركزاً تدريبياً في مختلف أنحاء اليمن، وإيجاد ممرات آمنة لأعضائه ولأعضاء تنظيم القاعدة للتنقل بين المحافظات اليمنية، مما جعل من فرع التنظيم الدولي في اليمن الذراع العسكرية الأقوى في الشرق الأوسط، خاصة بعد عملية الدمج التي تمت مع أجنحة التنظيم في الصومال، كما جاء في الوثائق المسربة من اجتماع القيادات الإخوانية الأخيرة في تركيا، التي أشارت كذلك إلى تحويل اليمن كمقر رئيس بدلاً عن مصر التي فقد فيها التنظيم الدولي مكانه، وذلك لقرب اليمن من دول الخليج، ومن السعودية خصوصاً، مما يسهل لهم التواصل والتنسيق مع قيادات التنظيم في الخليج وتركيا، لسهولة ذلك أمنياً من ناحية، والتمكين للقاعدة وخلاياه في اليمن من ناحية أخرى. ولعل ما يجعل من مسألة نقل قيادة التنظيم إلى اليمن أمراً قد تم تنفيذه فعلياً هو ما أشارت إليه بعض التقارير الإعلامية اليمنية من أن القيادي الإخواني محمود عزت، موجود في العاصمة اليمنية صنعاء. لا شك أن ابن اليمن البار سيلاحظ أن التنظيم الدولي لا يغير من منهجه في الوصول إلى السلطة عن طريق اختراق المؤسسة الحكومية ثم السيطرة على مراكز صناعة القرار في وزارات مهمة كالداخلية والتعليم والإعلام وأثناء ذلك يتم تدجين المجتمع وتضليله والتلبيس عليه بشعارات دينية أو قومية أو أيديولوجية أو بها مجتمعة تبعاً لطبيعة الشرائح المجتمعية المستهدفة. أي نظرة للهيكل التنظيمي للحكومة اليمنية ومكوناتها يجد التغلغل الإخواني بدءاً بثلاثة مناصب وزارية إلى عدد كبير من محافظي المدن وما دون ذلك. ولا شك سيلاحظ كذلك التصريحات الصبيانية واللامسؤولة ضد السعودية التي تصدر من الصف الثاني لقيادات التنظيم من أمثال توكل كرمان وغيرها، في دلالة واضحة إلى تغير الشخصية اليمنية التاريخية لدى بعضهم من الشخصية المستقلة التي تراعي وحدة اليمن وتاريخه وعلاقاته مع جيرانه إلى شخصية فوضوية تتصرف وفق ما يُراد لها وما يُراد منها لتحويل اليمن إلى معسكر مفتوح للتدخلات الأجنبية التي ترسم مستقبله لا وفق ما يريد اليمن وشعبه. هذه التنظيمات التي استقرت في اليمن وجمعت الأعجمي والإفريقي والعربي تقود اليمن إلى تفتت داخلي لا يمكن أن يلتئم بسهولة في ظل طبيعة المجتمع القبلية. ويزداد الأمر سوءاً حينما تتحول اليمن إلى مركز لتصدير الثورة الإيرانية ومفهوم ولاية الفقيه سواء بصيغته الإيرانية الشيعية المعروفة أو بالصيغة السنية التي يسعى إليها التنظيم الدولي. المؤكد أن الوطن ومصلحة الوطن هي آخر ما تفكر فيه هذه التنظيمات وقياداتها التي تم مسخها عن الشخصية العربية اليمنية التاريخية العريقة الأصيلة إلى إخواني أممي أو مسخ أعجمي يفتقر إلى الحكمة والاتزان يمارس عملية انتحال الشخصية اليمنية التاريخية. أبناء اليمن الذين تحدث عنهم التاريخ ومنحهم صفة الحكمة وبُعد النظر والأفئدة الطيبة والشجاعة لا يقبلون بمثل ذلك، وهذا ما سنلمسه من المواطن اليمني الذي ما زال يحتفظ بأصالته وتاريخه وهو يقف إلى جوار هيبة الدولة اليمنية ولا يسمح لتلك التنظيمات أن تتحول إلى دولٍ صغيرة ضمن الدولة الأم، خاصة بعد كشف منصات الصواريخ التي نُصبت في مناطق ريفية حول العاصمة صنعاء. كاتب وباحث سعودي