يطلق كثير من علماء النفس الاجتماعي على العصر الحالي مسمى عصر «المجاراة» أو عصر التكتل وغيرهما من المسميات الدالة على سيكولوجية الطاعة للجماعات، باعتبار أن الفرد يتفاعل مع الآخرين؛ فتتولد لديه الضغوط نحو التماثل، فيميل كل عضو في الجماعة إلى أن يسلك ويتصرف بطريقة تتوافق مع الجماعة فيما يعرف بالانصياع العام. والتساؤل هنا: إذا كانت المجاراة «تغيرا سلوكيا أو اتجاهيا يحدث كنتاج لضغط الجماعة الحقيقي أو المتخيل»، فهل اتفاق الشخص مع الجماعة يعني المجاراة؟ وهل هناك فرق بين التغير المؤقت في الحكم أو الاتجاه أو السلوك حينما يتلاشى ضغط الجماعة، وبين التغير الفعلي الذي يستمر بعد زوال الموقف؟ وهل هناك شخصيات مستقلة بعيدة عن تأثير الجماعة؟ «المجاراة» في الحقيقة ظاهرة سلوكية معقدة وحتى نحافظ على رشاقة الطرح ولا نثقل على القارئ فإن علينا أن نميز بداية بين المصطلحات (الإذعان) و(الطاعة) و(القبول) بشواهد واقعية «فالإذعان» compliance يتجسد عندما يمتنع الرجل عن التدخين في منزله احتراماً لوالده أو تجنباً لأسئلة أبنائه أو يتوقف عند إشارة المشاة؛ خشية أن يخالف الناس، أو أن يقدم الرجل العطاء؛ خوفاً من أن يوصف بالبخل، أما «القبول» acceptance فهو أن يساير الفرد الآخرين مع اقتناعه بقيمة هذا السلوك، على سبيل المثال فإن إكرام الضيف والتبسم في وجه الآخرين وربط الحزام كل ذلك يتم اعتقاداً بأهمية هذا السلوك وصحته، أما «الطاعة» obedience فهي تتعلق بتنفيذ الفرد لطلبات محددة قد يتلقاها من أفراد يمثلون عادة مصدر سلطة ما مثلاً قادة سياسيين أو إداريين أو مدرسين أو والدين مثلا. والملاحظة المهمة هنا أن الطاعة قد تكون مجرد إذعان أو قد تكون مجرد قبول! فكيف يمكننا تحديد ما إذا كان الشخص مقتنعا وغير خاضع لسلطة الجماعة؟ في محاضرة ألقيتها في مدارس الظهران الأهلية تحدثت عن نموذج مغواير Mcguir وهو نموذج يتعلق بنظريات (الإقناع) ضمن منحى معالجة المعلومات الذي تبنته جامعة ييل في مطلع الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين وقاده نخبة من علماء النفس عرف لاحقاً باسم برنامج (ييل للإقناع) وقد دعمته مؤسسات حكومية وخاصة ويرتكز على خمس خطوات: الأولى: «الاستقبال» فالفرد عندما يستقبل الرسالة الإعلامية أو التسويقية فإنه أمام خيارين: الانتباه أو الاستيعاب، فقد تثير الرسالة انتباه المتلقي لكنه لا يستوعبها! أو قد يستوعبها بفهم خاطئ أو ناقص! فكأن النقاش يدور حول أهمية إثارة الانتباه مع الاستيعاب والسؤال لماذا؟ لأن الخطوة الثالثة هي الأهم «القبول» acceptance فما الفائدة من أن تلفت الرسالة انتباه المتلقي أو يستوعبها لكن لا يقبلها ولا يقتنع بها! ثم تأتي الخطوة الرابعة وهي الاحتفاظ؟ فما الفائدة إذا اقتنع المتلقي بها لكن تأثيرها يكون مؤقتا؟ وهكذا تأتي الخطوة الأخيرة وهو السلوك: فما الفائدة أن تكون في ذهنه لكنه لا يطبقها في الواقع؟! من أجمل التعريفات للشخص المستقبل حقيقة «يعرف ما يتوقعه الناس من حوله ولكنه لا يستخدم هذه التوقعات كمرشد له في سلوكه فهو غير مكترث أو لا مبال بهذه التوقعات» وكأن انهيار الإطار المرجعي Frame Reference للفرد الذي يتوجه من خلاله عبر الموقف يقود لحالة من فقدان الاتجاه فلا يستطيع الشخص أن يدافع عن حكمه الشخصي أم يوافق على حكم الجماعة؟! هنا يأتي دور التأثير المعرفي أو الإعلامي الذي يزود الفرد بمعلومات بحيث يتخذها الفرد شاهداً على صدق واقع معين. لذا نجد ابن خلدون قديماً يقول في مقدمته «على مقدار جودة المحفوظ والمسموع تكون جودة الاستعمال من بعده» وليسمح لي العلامة ابن خلدون بالتعديل على مقولته لأن هناك تزاحما في هذا العصر بين المقروء والمرئي بل نزعم أن هناك تفوقا للمرئي بعد أن اجتاحت الفضائيات العقول لتقوم بدور «الإعلام الموجه» في البيوت وفي كل المواقع؟ الإعلام المعاصر (السلطة الرابعة) أصبح أداة خطرة ووسيلة تلعب دوراً حساساً في صياغة سلوك الأفراد والمجتمعات أو لنقل لها تأثير ساحر في ترويض أذهان الناس وتعديل الاتجاهات وتغيير القناعات من حيث (الإغراق) أو (الحبس) وهي اللعبة الرائجة اليوم. ولعل رصد المشهد الحالي والدور الأمريكي الساعي لتحريك اللعبة الطائفية في المنطقة ليذكرنا بما حدث أيام الاحتلال البريطاني للعراق وقبيل اندلاع ثورة العشرين، عندما زار القائد العسكري البريطاني (لجمن) المرجع الديني (الشيرازي) في النجف وعرض عليه أن يأتيه بمفاتيح روضة الإمامين في سامراء (وهي بيد السّنة) ويعطيها للشيعة، فرفض (الشيرازي) ثقة منه بمن كانت بأيديهم تلك المفاتيح وعاد (لجمن) يجر ذيل الخيبة، وقام المحتل بلعبة جديدة فبعث بطلب الشيخ (ضاري – من وجهاء السّنة) وقال له: كيف تطيعون فتوى الشيرازي وهو مرجع للشيعة؟ فأجابه الشيخ ضاري بكلمات شامخة كشموخه: والشيرازي مرجعنا أيضا! كلنا يعلم أنه إذا كمل العقل نقص الكلام وإذا كان الإنسان حرا في قراراته فإن الأوطان تقف على أرض صلبة، ويبقى السؤال في وطننا العربي الكبير: هل لدينا سقف من الحرية ومناخ يسمح للناس أن يكونوا مستقلين في آرائهم ومعتقداتهم؟ يقول أندري كيلواس (في معظم البلدان للمواطنين الحق في الكلام لكن في البلدان الديمقراطية يملكون الحرية بعد الكلام).