يبدو الناس في غالب الأحوال كأنهم يفهمون بسهولة متناهية ما يسمعونه من كلام يصدر عن متكلمين آخرين «للغة نفسها». فهم يتبادلون الحديث ويمضون ولا يصدر عنهم ما يشير إلى عكس ذلك. ويمثل انطباعنا هذا تفسيرا «بديهيا» مفاده أن «التفاهم» المتبادل بين المتحدثين أمر طبيعي. لكن هذا التفسير «البديهي» مضلل، ولا يصمد للبحث العلمي المدقِّق. وكنت أشرت في مقال سابق («مساءلة البديهة»، الشرق، 11/27/ 1434ه) إلى أن مثل هذه التفسيرات «البديهية» «ربما تستمر . . . طويلا، لكن الإنسان يتخلى عنها دائما ويكتشف خطأها حين تجدُّ تفسيرات جديدة نتيجة لتقدم معرفته واكتشاف (تفسيرات) أكثر دقة. (وهو ما أشار إليه) عالم اللسانيات الأمريكي نعوم تشومسكي (بقوله): «لا يَصلح فهمُ العالَمِ المستندُ إلى البديهة أبدا دليلا على ما تكون عليه حقيقة هذا العالَم» (Noam Chomsky. The Science of Language. Interviews with James McGilvray, 2009, p. 73)، ويضيف أن العلوم «توفِّر أنواعا مختلفة تماما من الطرق للنظر إلى العالَم، وتختلف هذه الطرق اختلافا جذريا عن البديهة. وقد هُجِرت البديهة تماما في العلوم المتقدمة، في الأقل؛ بل لم تعد حتى مجرد وسيلة». وهو يؤكد دائما أن «التفسيرات العلمية» لا تبدأ إلا حين «يسمح الإنسان لنفسه بأن تأخذه الحَيْرة أمام الظواهر الطبيعية». ويعني هذا أن يبدأ في التشكك في التفسيرات «البديهية» التي توحي للنظر الأول بأنها تفسيرات كافية لتلك الظواهر. ومن الأمثلة التي يضربها لهذا المسار العلمي أن «العلماء» استمروا لآلاف السنين يفسرون سقوط الأجسام الصلبة نحو الأرض وصعود البخار إلى أعلى بأنه نتيجة لرجوع تلك الأشياء إلى أماكنها الطبيعية. ويضرب مثالا على تحدي تلك المسلمة البديهية بجاليليو الذي لم يرض بذلك التفسير فتوقف محتارا أمام هاتين الظاهرتين متشككا في التفسيرين البديهيين التقليديين لهما، وكونهما التفسيرين الصحيحين للظاهرتين، وهذا ما قاده في نهاية الأمر لأن يقترح تفسيرا بديلا «علميا غير بديهي» لهما. وهو ما مثل فَجْرَ العلم المعاصر، كما يقول تشومسكي. ولا تخرج التفسيرات المعهودة للتفاهم بين من يتكلمون «لغة واحدة» عن تلك التفسيرات البديهية، كما سبق القول. وهو ما يوجب علينا، إذا أردنا تفسيرات «علمية» لهذه الظاهرة، أن نتشكك، أوّلا، في هذه التفسيرات التي تبدو لنا بادئ الرأي كأنها تفسيرات كافية، وأن نحاول تجاوزها إلى البحث عن تفسيرات أخرى «علمية» ربما نجدها في زوايا لا تخطر على بدائهنا. ولكي نصل إلى تلك التفسيرات «العلمية» ينبغي أن نسأل في البدء: هل يفهم الناس، الذين يتكلمون «لغة واحدة»، بعضهم عن بعض بسهولة حقا؟ وتنبغي الإشارة بداية إلى ما يقوله اللسانيون من أن إحدى خصائص اللغة أنها تلائم السياق الذي تستخدم فيه لكنها غير محكومة به. ويعني هذا أن المتكلمين يقولون في أغلب الأحيان جملا ملائمة للسياق لكنهم يقولون أحيانا جملا لا يمليها السياق نفسه. وهو ما يفسر فهْم الناس بعضهم عن بعض أحيانا بصورة مباشرة وعدم تحقيقهم ذلك الفهم أحيانا لأسباب منها اتصاف اللغة كذلك بما يسمى مبدأ «عدم الارتباط بالمثير»، الذي أشرت إليه في مقال سابق. ويشير الباحثون إلى أسباب كثيرة يمكن أن تقوم في سبيل التفاهم الجيد بين المتحدثين. ومنها أن كل واحد من المتكلمين اكتسب اللغة فرديا مما يعني أن له «نحوا» خاصا يختلف بالضرورة عن أنحاء الآخرين الذين اكتسبوها أفرادا مثله. ويعني هذا أنه على الرغم مما يكاد يكون اشتراكا بين هؤلاء المتكلمين في الأنحاء التي يكتسبون إلا أن هناك فروقا نحوية فردية ربما تؤدي إلى ما يسمى ب «عدم التجانس» بينهم في أنحائهم واستخداماتهم اللغوية. يضاف إلى ذلك أن الكلمات، كما يقول تشومسكي، لا ترتبط إحاليا بما تشير إليه بالكيفية التي يراها المشتغلون بدراسة الدلالة. ذلك أن «الإحالة» الفعلية إنما تنبع من وجهة نظر المتكلم عن الشيء الذي يريد الإشارة إليه، وهنا مصدر الاختلاف في الدلالة بين المتكلمين: فربما يعني زيد بكلمة ما شيئا ويعني عمرو بها شيئا آخر. كما أن المتكلمين لا يستخدمون دائما جملا «صحيحة نحويا» أثناء ما يتكلمون، ولا يستخدمون جملا تامة كلما استخدموا اللغة. وهذا ما يلجئ السامع إلى افتراض بنى نحوية معينة باستمرار لتأويل ما يسمع، وربما لا تكون تلك البنى مماثلة للبنى النحوية التي قصدها المتكلم، كما يقوم التأويل كذلك على معجم السامع لا على معجم المتكلم بالضرورة. ومن الظواهر التي تقوم في طريق التفاهم المتبادل أن كثيرا من الجمل ملتبِسة ambiguous مما يعني أنها ربما تعني أمورا متعددة. ولا بد للمستمع أن يبحث عن التركيب النحوي الملائم لهذه الجمل ليعطي لها تأويلا ملائما من بين تأويلات متعددة. وربما كان أحد أهم العوامل التي تعترض التفاهم التام بين المتحدثين ل «اللغة الواحدة» ما أشرت إليه في المقال السابق من قول تشومسكي بأن 99.9% من اللغة يحدث في دماغ الفرد بينه وبين نفسه. ويعني هذا أن الإنسان مشغول عن الاستماع إلى ما يقوله الآخرون = إلى حدود هذه النسبة. فكيف يمكن له، مع هذا الاستغراق الذي يكاد يكون كليا في الكلام إلى نفسه، أن يولي انتباها تاما لما يقوله المتحدثون وأن يفهم عنهم ما يقولونه تماما؟ ويمكن التمثيل على هذا الانشغال الذي يعترض الانتباه الضروري لفهم ما يقوله الآخرون بظواهر نعرفها جميعا. ومنها مثلا أننا نستمع إلى خطبة الجمعة ثم نخرج وربما لا يتذكر أكثرنا ما قاله الخطيب. ولا يعود ذلك إلى أننا لم نفهم تلك الخطبة «لغويا» بل إلى أننا كنا منصرفين عما يقوله للحديث إلى أنفسنا! ومنها أن كثيرا منا يدخل في الصلاة الجهرية وراء إمامه ولا ينتبه إلا وقد خرج منها بالسلام ولا يذكر ما قرأه الإمام في الركعتين الأوليين! ومن النكت الدالة على هذه الظاهرة ما يحكى من أن تاجرا صلى العصر مع إمامه في بريدة، ولما سلم الإمام نبهه التاجر إلى أنه لم يصل إلا ركعتين. فسأله الإمام عن دليله على ذلك، فقال: إنني أبدأ رحلتي من بريدة إلى الكويت عادة حين تكبِّر تكبيرة الإحرام وأعود إليها مع السلام في الركعة الرابعة. لكنك اليوم سلمت وأنا في «جليب الشيوخ» (منطقة في الكويت)، وهذا يعني أنك لم تصل إلا ركعتين تمثلان نصف الرحلة! ونعرف جميعا ما نلوم أنفسنا عليه دائما من أننا نبدأ قراءة سورة من القرآن الكريم ثم لا نتنبه إلا حين نكتشف في نهايتها أننا لا نتذكر قراءتنا لكثير من الآيات التي مررنا بها! ومحصلة القول أن فهم ما يقوله المتكلمون ليس سهلا، بل ربما يكون إحدى المعجزات التي ينجزها البشر على الرغم من المشكلات التي تعترض هذا الإنجاز وتجعله صعبا للغاية.