كان مشهداً عجائبياً ولا شك. مشهد ينسجم مع عجائبية حال مصر كلها. اللواء المهيب ببزته العسكرية يشرح لجمهور من الحاضرين ووسائل الإعلام تفاصيل عمل الجهاز الذي اخترعه للقضاء على فيروس نقص المناعة «الإيدز» وفيروس التهاب الكبد الوبائي.. حتى هنا والمشهد يبعث على الهيبة والجميع يترقب تفاصيل الاختراع العظيم الذي سيغير وجه الأرض، لكن تلك الرهبة سرعان ما انقلبت إلى فقاعة كبيرة من الدهشة ثم سالت بموجة عارمة من التعليقات الساخرة حيناً والغاضبة حيناً آخر. «سأضع الفيروس في إصبع من الكفتة وأعطيه للمريض» هذه العبارة تحديداً هي ما التقطتها وسائل الإعلام واعتبرتها منطلقاً لتعليقاتها الساخرة. والذي تحول فوراً لساحة جدل سياسي بين المؤيدين والمعارضين للجيش. الفريق المؤيد انطلق يدافع بضراوة عن الاختراع دون أن يعرف أي شيء من تفاصيله والفريق المعارض وجدها فرصة سانحة للسخرية من دواء الكفتة وللتدليل على تدهور الوضع العام في البلاد واستخفاف السلطات بالناس وعقولهم. لكن لو تأملنا المشهد بصورة أشمل لوجدنا عدة دلالات ذات مغزى تستحق التوقف عندها. أولى هذه النقاط هو أن كلا من الفريقين المؤيد والمعارض لم يحاول قياس الأمر بمقياسه العلمي الصحيح، لم يتوقف أحد ليسأل أصحاب الشأن أنفسهم من العلماء وما أكثرهم في مصر. لم يشر أحد من قريب أو بعيد إلى حضور أو غياب المنهج العلمي في البحث، فعلاج أي مرض أو مشكلة لا يعتمد في قبوله أو رفضه على غرابة العلاج أو طرافته بل على اتباعه قواعد البحث العلمي التي يعرفها أي طالب مستجد في أي كلية علمية، المنهج التجريبي الصارم هو وحده ما يجعل أي اختراع أو دواء موضع قبول واحترام أو العكس، هذا المنهج هو الذي يقدر ويحترم العلاج بالإبر الصينية رغم غرابته ورغم الروحانيات والطقوس التي يعتقدها ممارسوه القدامى، تلك الخرافات لم تحل دون الاعتراف بالإبر الصينية كعلاج مجدٍ بعد أن أثبتت الأبحاث التجريبية الصارمة ذلك. نفس الأمر ينطبق على وسائل وطرق علاجية كثيرة بدت في أول الأمر غاية في الغرابة ثم أصبحت من المسلمات. لكن الجدل الذي دار حول جهاز الشفاء من الإيدز المزعوم يدل دلالة واضحة على مدى تخلفنا الفكري مؤيدين ومعارضين على حد سواء وعلى مدى غياب احترام العلم كمنهج وأسلوب حياة لا كوسيلة للحصول على الشهادة والوظيفة. فسعادة اللواء لم يخبرنا عن فريق العمل الذي عمل معه، ولم يخبرنا بعدد الدراسات التي أجراها، ولا بمنهجها ولا نوعها وهل قام ببحث تجريبي مع عينة قياسية وماهي النتائج التي حصل عليها وهل لها دلالة إحصائية أم لا؟. تلك هي اللغة التي يتحدث بها العلماء والمخترعون ولا يفهمون أي لغة سواها. ومع الأسف لم يكن حال المعارضين أفضل، إذ بادروا بالسخرية دون أن يكلفوا أنفسهم عناء السؤال لنقض أو قبول ما يطرح أمامهم. من الواضح أن علاج الإيدز المزعوم ليس سوى نكته لكن نكتة تستحق الرثاء لا الضحك.. الرثاء على حالنا المتردي الذي أثبت أننا رغم كل مدارسنا وجامعاتنا ومراكز أبحاثنا مازلنا نعيش عصر الخرافة ومازلنا لا نعترف بالعلم إلا في ورقة الامتحان!