تحدثنا في المقال السابق عن احتكار العقار وتعطيل الاستفادة منه وتأثيراته الضارة على الفرد والمجتمع، وهنا نتحدث عن ضرورة تحصيل الزكاة وفرض رسوم محفِّزة لفك الاحتكار للتخفيف عن كاهل المواطن وإنعاش الاقتصاد وتنمية الاستثمار. إن وضع العقار لدينا حالة ليس لها مثيل على الكرة الأرضية، فهل يعقل أن يتعذَّر على الدولة تملُّك ما هي في حاجة إليه من مساحات محدودة لتقيم عليها مرافق خدمية لتلبية متطلبات التنمية رغم ما تتميز به المملكة من مساحات شاسعة وثروة هائلة مقارنة بقلة عدد السكان، فها هي إعلانات حكومية تصدر على مدار العام وفي مختلف المناطق لطلب شراء أراضٍ واستئجار مبانٍ لمرافق وخدمات حكومية. لقد فرض الله الزكاة وجاءت ترتيباً بعد الصلاة، ربنا جل علاه قدم الزكاة على الخشية منه، وجعلها ترتيباً بعد الصلاة، فقال في محكم كتابه: (من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله.. الآية)، إن الله خلق الإنسان لعبادته وإعمار الأرض ليستمر الكون، ولقد أمر الله بني آدم بإعمار الأرض باعتبار الإنسان خليفته في أرضه، وقال: (إني جاعل في الأرض خليفة… الآية)، وكلَّفه ببناء المساكن طلباً للستر واتقاء البرد والحر، ومن ذلك بناء المساجد والمدارس ودور العلاج ومرافق تُعنى بالأمن والعدل والخدمات، ونهانا عن أن نكنز الذهب والفضة، وذكر ذلك في كثير من الأحاديث. احتكار العقار وتعطيل عمارته ينتج عنه تعطيل رأس المال وعدم الاستفادة منه؛ لإيقاف دورانه عن العمل وذلك يفوق ما ينتج من ضرر عن كنز الذهب. النتيجة أن التعطيل أضر بالصالح العام للمجتمع وأفرز مشكلات تنموية عدة اجتماعية وصحية وأمنية واقتصادية، فاحتكار العقار وتعطيل الاستفادة منه يعدُّ في رأي البعض أكثر ضرراً من كنز الذهب وإن اختلفت المسميات، وفي ما روي «المحتكر ملعون»، المحتكر لم يقدم نفعاً للوطن ولا زاد تقرباً من المجتمع، بل هو من عطَّل مصالح البلاد والعباد وجلب الضرر للوطن والمواطن. الضرر طال العدد الأكبر من المواطنين والمقيمين، بل والتنمية بوجه عام، حيث شكل عبئاً مضافاً على تكاليف المعيشة لأكثر من (60%) ما بين مواطن ومقيم، يقابلهم بضع عشرات من الناس يؤدون دور المحتكر، مما شكل عبئاً مضافاً ومسؤولية على أجهزة الدولة وخدماتها. نعم، الرسوم ليست بالضرورة هي الحل، ولكنها جزء مهم من الحل، سمِّها ما شئت رسوماً أو زكاة أو ضريبة، فجميعها يخدم المصلحة العامة للدولة والمجتمع، حتى لو أدى الأمر لإقرار الرسوم على العقار وتحصيلها ضمن أي رسوم أخرى أقرتها الدولة وتوجيهها لتمويل برامج عدة لمعالجة ظاهرة البطالة والفقر ومكافحة الجريمة بأنواعها المتعددة. فمن قائل يقول إن كنز الذهب أقل ضرراً على المجتمع والدولة من احتكار العقار وتعطيل الاستفادة منه، ذهاباً إلى القول بأن تحصيل الرسوم والزكاة تعود بخير وفائدة للصالح العام للمجتمع بما يؤدي إلى تحريك رأس المال. الشرائع السماوية والأنظمة والقوانين الوضعية والسياسات العامة للدول تكافح الاحتكار وتجرِّم المحتكرين بعقوبات منها الغرامة والمصادرة والسجن، وتعمل على تشريع الأنظمة والقوانين التي تحدُّ من الاحتكار، فإن الزكاة مقررة شرعاً والرسوم نظاماً والتهرب من الدفع مخالفة شرعية ونظامية، وتحصيلها على مختلف النشاطات الاقتصادية هو مطلب شرعي ونظامي وجزء من مهام الدولة ومسؤولياتها باعتباره تثبيتاً للعدل وتحقيقاً للمساواة. الزكاة والالتزام بدفعها تحصيل حاصل شرعاً ونظاماً، فلا مجال للمقارنة بين احتكار العقار وكنز الذهب، فاحتكار العقار أكثر أضراراً، لذلك فقد توعد الله كانزي الذهب، فلماذا يحرم السواد الأعظم من المواطنين من الاستفادة من العقار بإعماره والسكنى فيه «رأس المال العامل المنتج»، ولمَ لا نفسح المجال لتمكين العدد الأكبر من المواطنين للاستفادة من تلك الفرص المربحة والآمنة. الزكاة والرسوم خير حافز لتوجيه رؤوس الأموال إلى مشاريع استثمارية، كما سيتحقق من جراء دفع الرسوم فوائد عدة، فعلاوة على الحد من الاحتكار فهو دافع لتحريك رأس المال وتنشيط لحركة البيع تجارةً واستثماراً، وللمساهمة في إنتاج سلع وتقديم خدمات وتوظيف مواطنين، ومعه يتحقق الأمن الاقتصادي والاجتماعي ليعم النفع بإذن الله. دفع الزكاة بنفس راضية هو جزء من الطهارة، وأهل العقار نحسبهم إن شاء الله في مقدمة الراغبين في تطهير أنفسهم وأموالهم الحريصين على نيل البر، زاد الله الراغبين منهم في دفع الزكاة غنىً وطهارة وبراً، وحتى لا يحرم البعض من الأجر والثواب لماذا لا يلزم الجميع بدفع الزكاة والرسوم على عقاراتهم، حيث يتم توجيهها لمصارف الخير المعتبرة شرعاً. لقد مرت الرياض بتجربة إلزام الملاك بتسوير أراضيهم الواقعة داخل النطاق العمراني «الأحياء»، وتولت البلدية آنذاك القيام بتلك المهمة حفاظاً على صحة الإنسان وبيئة المكان لتلافي التعرض لأتربة وغبار ودخان ضار بالبيئة والإنسان، ومن ثم تحصيل تكاليفها من الملَّاك عند طلبهم إصدار رخص البناء. تحصيل الزكاة من خلال القنوات النظامية وتوجيهها لتمويل برامج عدة وفي مقدمتها الضمان الاجتماعي كزكاة ومصلحة الزكاة والدخل كضريبة؟ أ- الإلزام بتطوير الأراضي خلال فترة محددة من شرائها. ب- فرض رسوم على العقارات المخصصة لأغراض تجارية. ج – حجز المواقع المخصصة للمرافق العامة داخل الأحياء أو على الطرق البرية. د- لابد من البحث عن وسائل محفزة لتحريك رأس مال العقار وتجديد دورته واستثماره ليعود بالفائدة على الوطن والمواطن من خلال تشغيله في مجالات التنمية الشاملة بوجه عام، على أن يخضع ذلك لضوابط كتحديد المساحة والقيمة الإجمالية والمدة الزمنية والموقع وطريقة التملك. يخرج علينا من يقول لا زكاة على الأراضي الكبيرة، ونقول إذاً على من تكون الزكاة؟ هل تكون على مِنَح الدخل المحدود (400) م2، تلك النائية بلا خدمات، حتى وإن حصل صاحبها على أرض وقرض حكومي أو غيره وأقدم على بنائها، فإنها ستكون بعيدة عن الخدمات. إن ما صدر من فتاوى خلال خمسين عاماً مضت تم العدول عن بعضها بحكم اختلاف الظروف والمقاصد والضرر والمصلحة، كثير من المدارس الفقهية والفتاوى قديمها وحديثها تأثرت بل وتغيرت مع تغير الزمان والمكان، فبعض ممن صدرت عنهم فتاوى من علماء وفقهاء تراجع عنها، حيث اقتضت المصلحة الواقع والأولويات والنوازل والمقاصد وجلب المصلحة ودرء الضرر والمفسدة. وحين أقدمت الدولة على اتخاذ القرار الإلزامي بالتأمين التعاوني والصحي وفرضت من الرسوم والغرامات ومضاعفاتها من المرور وساهر والجوازات والعمل والبلديات وغيرها رغم وجود اعتراضات عليها من بعض العلماء، كما سمحت بل أجازت التأجير المنتهي بالتمليك وكذا مكالمات الاتصال على الرقم (700) على القنوات التليفزيونية لبرامج رمضان وغيرها، وبالتالي فإن مصلحة المجتمع والدولة والمواطن تستدعي إقرار فرض رسوم على العقار وتحصيلها مع الزكاة الشرعية في المنبع عند «الإفراغ» أو إصدار الرخص وتجديدها. أمامنا عدد من الفتاوى لعدد من العلماء والفقهاء الأفاضل بعضها قديم وبعضها حديث، منهم من أجاز تحصيل الرسوم على الأراضي، ومنهم من اعترض في زمن مضى «خالٍ من الأزمات» بخلاف زماننا هذا الذي جعل من العقار أزمة خانقة ! أضرَّت بقرابة 60% من المواطنين، وعطلت كثيراً من مشاريع التنمية وحمَّلت خزينة الدولة أعباء إضافية في شكل إيجارات مرتفعة وقيم أراضٍ مبالغ فيها لمرافق وخدمات وبنى تحتية حكومية وأهلية، حيث شكلت قضية أرَّقت الدولة وستظل تعاني منها لسنوات عدة ما لم تعمل الدولة على إيجاد حل سريع لها، مما يتطلب استعجال البت في أمر تحصيل الزكاة والرسوم على العقار. فإذا كان من المتوقع أن تقوم الدولة بتحصيل ما يزيد على (25) مليار ريال كزكاة عن العام المالي الحالي على نشاطات اقتصادية إنتاجية وخدمية، هذا بخلاف ما يتم تحصيله من الرسوم والغرامات عليها، فإن من باب أولى أن يتم تحصيل ما يفوق ذلك من النشاط العقاري في شكل رسوم، هذا فضلاً عن ما هو مستحق على العقار كالزكاة. المقاصد الشرعية وواقع الحال وما يجري من خلاف حول فرض الرسوم على العقار حاله كحال الخلاف على التأمين التعاوني والتأجير المنتهي بالتمليك وغيرها من رسوم وغرامات المرور وساهر والجوازات والعمل، حرمت الصحون «الدشوش» المستقبلة لبث القنوات الفضائية ومثلها السياحة في الخارج والهجرة إليه، وإن الترجيح لأي من الرأيين تحكمه عوامل عدة منها المصلحة والضرر والقياس والعقل والعصر باعتباره من الأصول الثابتة، حيث يتم تقييمها سنوياً عند إعداد الميزانيات، ففرض رسوم نظامية على العقار مطلب تفرضه الضرورة وواقع الحال وأمر حتمي في ظل الظروف الراهنة، فضلاً عن تحصيل الزكاة الشرعية، وأن نأتي متأخرين لنناقش أمر تحصيل الزكاة «دفعها أو منعها»، فإننا بذلك «كمن فسَّر الماء بعد الجهد بالماء». أركان الإسلام الخمسة جميعها واجبة الأداء على المسلم، غير أن الشرع الحنيف والسنة النبوية المطهرة قد أجازت إعفاء المسلم من القيام ببعضها حال عدم القدرة، وهي الحج والصيام وحتى الشهادة عند تعذُّر الإشارة أو النطق بها، أما الزكاة وهي الركن الثالث فلم تسقط عن الموسرين أصحاب النصاب الزكوي. لقد نبهنا علماؤنا وفَّقهم الله عن عدم السؤال أو طلب الفتوى بصيغة ما رأي الشرع على اعتبار أن الرأي يحتمل الظن ومعه الخطأ والصواب، لذا «ما حكم الشرع» في السؤال التالي: أيهما أشد ضرراً على المجتمع ومهام الدولة ومسؤولياتها تجاه مواطنيها، احتكار العقار أراضيه ومبانيه وتعطيل الاستفادة منها، أم كنز الذهب، وأيهما أولى بدفع الزكاة والرسوم وما ينتج عنها من غرامات؟. إصدار ضوابط تنظم العلاقة بين المؤجِّر والمستأجر تضمن حقوق الطرفين وتمنحهما مرونة وربحية وعدالة باعتباره قراراً تنظيمياً تقتضيه المصلحة العامة بحكم أن النشاط العقاري يتأثر ويؤثر على مختلف الأنشطة الاقتصادية، مع عدم اللجوء إلى رفع الإيجار في السنوات الخمس الأولى أو التهديد بإخراج المستأجر، مما يمنح الاطمئنان والاستقرار والاستمرار في أداء العمل، فإذا احتكر التجار السلع وتحكموا في أسعارها وجب منعهم. السؤال إلى أهل الرأي والعلم، وقد أصبح العقار واحداً من أهم السلع وأكثرها حاجة للأسرة والفرد -وفقهم الله-، على ضوء ما تقدم أي الفريقين أحق بالإعفاء من تحصيل الزكاة، وأيهما أولى بدفع الرسوم والغرامات، وأيهما أكثر ضرراً وأجدى نفعاً على التنمية الوطنية، النشاط العقاري أم النشاط الاقتصادي، العقار وأراضيه المُحتكرة ومبانيه «المعطلة» غير المستغلة أم أصحاب المشاريع المنتجة للسلع وتقديم الخدمات للمجتمع وغيرها من ورش ومتاجر وصيانة ومقاولات.