أردنا الإشارة إلى موضوع اجتماعي سياسي وخطير بحاجة إلى كثير من الجهود الفكرية والسوسيولوجية التي ترسم ملامحه وتوضح أبعاده، ومما لا شك فيه أن البحث في قضية الإرهاب وكشف الأعماق لخلفيات التطرف الفكري تقتضي تفسيرا للسؤال الدائم عن علاقة الدين بالعنف، وعن النهج الذي ينضوي تحته من كل الأساليب الممكنة في التعبئة والتجييش العاطفي الذي يغيب عقل الفرد ويقوده إلى قتل نفسه والآخرين بلا عقل وبلا رحمة، وهذا يفسر تكاثر الجماعات الدينية المتشابهة في التكوين وتجانس الهوية، والمختلفة في تنوع اتجاهاتها والمتناقضة في أهدافها السياسية، التي تعمل على دعم الحزبية وتكريس العنف والتطرف الجماعي الذي شكل صراع القوة العاكس لأبشع صورة من صور التطاحن السياسي المعاصر، وتكريس الحرب ضد النزعة الإنسانية بكل ما تحمله من القيم، وبرغم نقاط الاختلاف بين هذه الجماعات الإرهابية، إلا أنها قد تتحد لما بينها من مشتركات لتكوين تنظيمات متحالفة تتمكن من التأثير السياسي والاجتماعي داخل المجتمعات التي تنمو فيها. الحرب التي تتمثلها الجماعات الدينية تبنى على إضفاء طابع القدسية على ممارستها بهدف الاستقلال السياسي، وأعني أن يكون ذلك على أساس المعتقد الديني، ويمكن أن نفسر أن التوجه الديني الذي تستخدمه هذه الجماعات وتشرعن به أساليبها لا يخدم مبدأ الدين على الأقل، إنما يحقق مكاسب ذات فائدة لمنظميها، تمكنت من تعطيل العقل الإنساني باستغلالها فكرة التعاطف للانتماء العقدي والمرجعية الدينية، واستطاعت بالتخويف أن تخلق التعصبات القومية وأن تثير الرعب بين الشعوب، خطفوا عقول الشباب قبل أجسادهم لتنفيذ عمليات من القتل والإرهاب الدموي الذي لا يعترف بالحدود، ظنا منهم أن هذا في طاعة الله وهو الأمر الذي يقربهم إليه، فالغاية تبرر الوسيلة، إذ إن التطرف هُنا ينطلق من هذه القناعات، حتى أن المظلوم يفضل أن يستظل بظلم ظالمه، وبهذا تظل الجماعات مشحونة تعادي بعضها ولا تشعر بقيمة الاستقرار، بعد أن يصور إليهم أن الآخر أشد ظلما وفتكا وعداء، وبذلك هم لا يستطيعون التسامح معه، وما يساعد على صُنع هذه القوة وصناعة التبعية وطأة التيه وفقدان الإنسانية الذي وقع ضحيته كثير من الناس، فلم يؤسس الدين في نفوسهم على مبدأ إنساني، وأصبح مدخلا سهلا وأرضاً خصبة لزراعة الأفكار الإجرامية، وهذا يسهل تجنيدهم من أجل تنفيذ الأهداف الإرهابية، إضافة إلى أن كثرة الإحباطات التي تحاصر الإنسان العربي تكاد تخنقه من الهزائم المتتالية على المستويات القومية والقُطرية، وحتى في الحياة اليومية، وهذا ما يساعد في إيجاد المحركات العاطفية التي تقود للخلاص من الحياة والبحث عن الأفضل، كفكرة الحور العين مثلا، وبالتالي ينقاد البعض لأي شيء، فهناك من يعتقد «أن الشعور الديني لدى المتطرفين هو نوع من الأيديولوجيا المتمردة الناجمة عن غياب العدالة الاجتماعية». التساؤل الأهم كيف يؤسس الدين على العُنف، وكيف يجعلون العُنف يشكل مطلبا للدين، وكيف تؤسس الرسالة الدينية على البغضاء والكره ونبذ الآخر، وإذا كانت الأديان كلها جاءت من أجل السلام بين البشر وتقويم وضبط أساليب معيشتهم في الحياة، فكيف يتم تحضيره في قالب الإرهاب وتشويه المجتمعات وعرقلة البناء الإنساني والهتك بمعاني النمو الطبيعي للحياة الإنسانية، وكيف يمكن أن يُهمل الإرث التاريخي للإسلام عمداً ويستبدل بالطموح للهدف السياسي وصراع النفوذ. وأرى أن هذا يشير إلى عزوف التيارات الدينية عن العلوم الإنسانية مما جعلها تبتذل في تفسير النصوص الشرعية ومن ثم توظيفها وفق التوجهات والمصالح. الإجابة عن هذه التساؤلات تتضمن كثيرا من التفاصيل المعقدة والشائكة التي يمكن اعتبارها بحاجة للتوسع والبحث العلمي من قبل الاختصاصيين في الفكر وعلوم الاجتماع وهذا ما لا يمكن حصره في مقال، ولكن يمكن أن نضع نقطة مهمة للتقاطعات الدينية والسياسية، وتقمص المتشددين والمتنطعين لرداء الدين الذي أوقعهم في مأزق لا يمكن من خلاله إيجاد التفسير المنطقي للورطة التي ربطوا فيها بين الدين والعمليات الإرهابية، التي أصبحت تُشكل هاجساً مُرعباً اليوم. ومما لابد من التطرق له هنا هو أن القيم الروحية للدين تم اختطافها من قبل هذه الجماعات، ويمكن تحديد النظرية التي يقوم عليها هذا الاتجاه والكيفيات التي شكلت العنف الديني، وأهمها الأيديولوجيا التي تبني نفسها على عملية «التطهير العرقي»، وهو نوع من العنف يأخذ فيه الرمز أهمية أكبر من الهدف الاستراتيجي للعنف، أي أنها لا تتمكن من التدمير الكلي للعدو، فتأخذ جزءا منه وترهب الجزء الآخر، وعلى تأسيس هذا الجهل جعلوا الأمة تقتل بعضها بعضا، والنتاج أن أعداد الضحايا لا يمكن حصرها، وأصبحت أرواحهم تُحصد كل يوم كقرابين بشرية يقدمونها للدفاع عن انتمائهم وهويتهم. يمكن أن نلاحظ أن الرمزية الدينية لدى بعض المتدينين ما زالت مستمرة على بث روح الكراهية والإقصاء وتغرير الشباب وشحنهم واستنفارهم للجهاد والقتل والحروب والتفجيرات الدموية، وإذا ما تجرد هذا الكبت ليحولهم هذا التدين إلى وحوش لا حدود لبطشها خصوصا في الدول التي فقدت الاستقرار وسيطرة القوانين، كما يحدث في العراق وسوريا كمثال، حيث إن مشاهد القتل وقطع الرؤوس تتزامن مع التكبير باسم الله دائما، وهذا ما يعكس أسوأ الصور عن التسامح الديني الذي جاء من أجل البشر، كما تعيدنا الذاكرة إلى أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر في عام 2001 شكلت منعطفا تاريخيا من منعطفات العنف الديني المضاد، وبرغم إدراكنا أن هذا العنف غير موجود في جوهر الدين إلا أن هذا يترك أسوأ الانطباعات السلبية في قناعات السياسيين والباحثين والكتاب سواء في الشرق أو الغرب، وهذا ما يترتب عليه فهم الملايين من الناس أيضا ذات الفكرة. ولأجل التوضيح لبعض المقاربات في الوقت الراهن لفكرة الدين والعنف، نجد أنها تتجلى اليوم في نظرة مختلفة لفهم الدين بالطريقة الأكثر تساميا، وربطه بالحياة والتسامح والسلام، وهذا في ظل كون الدين مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالحياة الاجتماعية في البلاد العربية، ولكنها تجابه من قبل فقهاء الجريمة بالتكفير والإبعاد لأنها تحول بينهم وبين مصالحهم، في حين ما يزالون يمتلكون القدرة على التماسك وحفظ مقاعدهم، هذا في مقابل أن التوجه الفكري لتصحيح النظرة الدينية يتمثل في مجهودات فردية ومواقف شخصية لم تصل إلى حد التشكيل للنظرة الجماعية التي يمكن أن تؤثر لإحداث التغيير الفكري الذي تشربته الأجيال طيلة هذه العقود الماضية، حتى أصبحت راسخة في عمق الفكر الديني، وهذا ما يؤزم هيمنة الإرهاب حتى اليوم، ويمكن تفسيره من خلال رأي الجماعات الدينية في الفكر العربي الذي يتمثل في اتجاهات ذات قوة أكثر منها في المجتمعات الغربية، فرأي الفرد في اتجاه الظاهرة الدينية لا يمثل إلا موقفاً شخصياً وهذا لا يلزمه برابط علاقة مع المؤسسات الدينية، لأنها تراجعت ولم تعد تستطيع فرض هيمنتها على الفكر الاجتماعي، إنما يؤخذ الدين كطبيعة فردية هناك، ونسبة الولاء والانتماء الديني تبنى على الفكر الذاتي وغير الموجه. حاولت أن أتناول في هذه القراءة المعادلة المعقدة التي أنتجت صورة دامية تنتهك حياة البشرية، بفعل أيد ملطخة بدماء الأبرياء التي تتدفق بغير وجه حق، من أعداء الإنسانية الذين ضللوا عقول الناس وظنوا أنهم يمضون على الحق والهدى والكتاب المبين. * كاتبة وباحثة اجتماعية سعودية