في الليل وبين أستاره المظلمة، ووسط هدوء سكونه، يرقدون هناك!.. سباتهم طويل، فهم لن يعلموا شيئا عن الدنيا ودورانها!.. ماكثون بلا حراك، مغمضون أعينهم إلى الأبد! لا يرون أحدا، ولا يبادلهم النظر أحد! في قبورهم يسكنون، واعتادت أجسادهم فترات الركون، إنهم أصدقاؤه الميتون!.. ذلك «الوحيد» الذي تركوه خلفهم، فلم يطق فراقهم، واستوحش بعدهم، وفي بيت صغير جاورهم!، ليتردد بزيارتهم، كلما لاحت أطيافهم، وارتسمت في عينيه ذكرياتهم، فيدخل المقبرة ليؤنسهم!، ويجالسهم، ويسمع في مخيلته ضحكاتهم وأحاديثهم، لكن هيهات.. فليس للأموات أرواح تتحدث، لكنها آلام وحدته عندما تلتف بأذرعها الخشنة حول عنقه، فيهرع إلى مقابر «صحبه»، ويصرخ بمنازلهم الأرضية، ويرفع صوته بصيحات تكاد أن تمزق جدران قلبه ألما وحزنا ووحدة واشتياقاً. فتعود إليه تلك الصرخات من صدى الأطلال، فالأجساد خالية من الأرواح، والقلوب باردة لا يدفئها قليل النبض.. فلن يجديه نفعا عويله وأنينه، فقد رحلوا إلى عالم آخر، يتمنى كل ليلة أن يلتقيهم فيه! مل البقاء وحيداً بعدهم.. يشكو قسوتهم بجوار رؤوسهم.. حتى تصيب أنامله لوعات الحرمان وتمتزج بشرار الجنون.. تمتد وهي راجفة الكف إلى القبر، فتقبض براحتها أولى حفنات التراب، فما تلبث أن تسري في جسده رعشة من رهبة الموت، فتضربه بعيدا عن القبر، حتى لا يكشف أجسادا دثارها الوحيد ذلك الثرى. يبكي، ويبكي، باحتراق وألم، ولا يكرر إلا كلمة واحدة فقط.. «أينكم؟!».. لن يجيبه منهم أحد!.. فقد سارت مراكبهم بعيداً، وسيسير مركبه معهم يوماً ما. وستتعانق أرواحهم بعد طول فراق، وستنتحر عندها قسوة وحدته، وتطلق سراحه من طول أسرها القاسي البارد.