هكذا هي الحالة يا صديقي علي.. يقتلنا «الإسفلت»* وتمتحن صبرنا السماء.. حالة أعرفها جيداً وكأنني أعيش التاريخ نفسه مع تغير اسم الأب والجد والقبيلة ولكنه (محمد) الذي رحل في 16 /4/ 2008م.. حيث الحزن والصمت والعويل والانزواء والنظر إلى السماء بروح مشوشة، وأقول دائماً كيف لي أن أقف ثانية بعد أن (كُسر ظهري)، وهذه استعيرها من التراث حينما قالها الحسين ابن علي بعد مقتل ابنه علي ابن الحسين.. ها أنت يا صديقي علي تعيش ذات الحالة التي أراها نفسي بداخلك بعد مرور خمس سنوات.. يوم أمس ربما كان الأصعب بالنسبة لك حيث الصدمة الأولى والوجع الأول.. لكنه وجع لن يغادرك،، بل ستتعلم كيفية التعايش معه، لتظلله وتجعله يرافقك في كل الأمكنة، ويسكن قصائدك المقبلة. هم الأبناء الذين نمنحهم كل لحظاتنا كي نستقوي على الحياة بهم، ونحارب العتمة من خلالهم، وحينما ننزوي قليلاً نقول.. هل منحنا أنفسنا الوقت الكافي للاقتراب منهم.. لا أعلم يا علي في مثل هذه اللحظات وحينما يستدرجك العاملون في المستشفى ويمارسون كذبهم عليك كي تصل وأنت نصف مرتعب لهم.. وأنت منزوٍ بالقرب من الطبيب المناوب حينما يأتيك الخبر، ليطلب منك أوراقك وبطاقاتك، وحيداً تبكي الجدار والسماء وتصرخ بصوت مبحوح. هل كنت جباناً مثلي وطلبت من أحدهم التأكد بأن المسجى على هذا السرير ليس ب (محمد)، وأنت متيقنٌ بأن محمدا لا يمكن أن يفعلها ويغادر سريعاً.. تلك العيون التي كانت تضحك معك يوم أمس وتهاتفك قبل ساعات وأنت تكرر بداخلك متى سيعود لنجلس ونشرب قليلا من الشاي ونتحدث في المرحلة المقبلة من الحياة.. عيونه التي لا تغادرك وتظل في أعماقك تعيش تحمل شيئاً من صمتك والجموع حولك يبكون، وأنت تحاول أن تكون أكثر تماسكاً.. هل كنت أكثر شجاعة مني حينما أبلغت أم (محمد)، بأن محمداً لن يكون بيننا، هل كنت أكثر جسارة مني وحاولت أن تكون أكثر قوة حينما أخذت «الجدة» بين ذراعيك أو ترتمي في أحضانها وأنت تقول إن محمداً لن يعود ثانية.. كلانا يا صديقي يتجرع كأس الرحيل والصمت والنظر لعيون الآخرين حينما تأتي مملوءة بالدموع وبعضها يحاول المواساة ويبعث الصبر بداخلنا، لكنهم لن يعيدوا لأحضاننا (محمدا) مرة ثانية.. إنه الوجع يا علي.. عليك أن تأخذ تمارين في التعايش مع هذا الألم وأخذ جرعات الصمت والبكاء والوحدة.. ستهيم روحك في البراري والصحراء، تحمل تلك الذكريات والأيام والسنين واللحظات الأولى، والكلمات الأولى، والسفر الأول. ذاك محمد وهذا محمد.. ها هما يلتقيان اليوم هناك، يبعثان لنا الصبر ونتجرع نحن المرارة.. وأي مرارة تلك التي سنتجرعها في عيون الأطفال هي الوجع.. والحزن والدموع التي ستبقى محبوسة كل ليلة بداخلك، ولن تخرجها حتى تطمئن أنهم نامو لتخلد وحدك بين أوراقك وتبكي حرقة على هذا الصمت، ويأتيك صوته من بعيد يحمل الذاكرة والذكريات والسفر والضحكات والرفاق والأصدقاء الذين تقاسمهم معك في اللحظات الجميلة. ولك ما كتب درويش في جنازة الغريب ميمُ / المُتَيَّمُ والمُيتَّمُ والمتمِّمُ ما مضى حاءُ / الحديقةُ والحبيبةُ ، حيرتانِ وحسرتان ميمُ / المُغَامِرُ والمُعَدُّ المُسْتَعدُّ لموته الموعود منفيّاً ، مريضَ المُشْتَهَى واو / الوداعُ ، الوردةُ الوسطى ، ولاءٌ للولادة أَينما وُجدَتْ ، وَوَعْدُ الوالدين دال / الدليلُ ، الدربُ ، دمعةُ دارةٍ دَرَسَتْ ، ودوريّ يُدَلِّلُني ويُدْميني ……………………………… رحل ابن صديقنا الشاعر والكاتب علي الرباعي صباح أمس إثر حادث مروري مؤلم على طريق الباحة العقيق..