قرأتُ في تراثنا المليء بكل غريب وعجيب بيتًا للشاعر بشار بن بُرد يا قوم أذني لبعض الحيّ عاشقةٌ والأذنُ تعشقُ قبلَ العينِ أحيَانا لم أُصدّق يومًا أنَّ الأذن من الممكنِ أن تعشق، موقنًا أنَّ النظرة هي أساس العِشق ورسول المحبّة بها تفتح القلوب ومنها يولد الحب وتتطور مراحله، ولكن عِشتُ لأرى الأغرب، فقد نشأ حبٌ ونما عِشقٌ دونَ سماعٍ أو حتَّى نظر، فقد تم بالمراسلة عن طريق الورقة والقلم.. عشقٌ امتدَّ في عمر الزمن، وثَّقَت عُراه الأيّام وريشة القلم، رَعته قُوى خفيّة. أسقطت أمام قوّة هذا الحب كل القوانين والنظم ليؤكد هذا العشق المتبادل بالورقة والقلم أنَّ الحب فِعلًا «أعمى» لا يُبصر، يضرب حيث يحلو له ويخضع لِسُلطانه وجبروت حكمه كل قلبٍ على وجه الأرض ينبض. لِذا فالحب مقدَّمٌ على سائر الفضائل الإنسانيّة، به نسمو، وبه نحيا ونعيش، وبه نتطهّر ونُحقق أسمى عواطِفنا الإنسانيّة.. بشار أعمى؛ أو ربما أنَّه مبصر بعين ترى بأشعّة التخاطر والتلباثي كما يقول أهل الاختصاص في ذلك، قال ذلك البيت البديع، وهو قولٌ يُمكن أن يؤول من بشار تأويل من فقد حاسّة البصر فأراد لها بديلًا فوجده في الأذن، ولكن الأمر الذي يبدو مثيرًا للغرابة أن تكون الأذن بديلًا للعين مع توفرهما معًا.. والعلاقة الغريبة التي نحن بصددها كان وقودها ورقة وقلم وطابع بريد وصل بين قلبين عاشقين على مدى ربع قرن من الزمان دون أن يلتقيا وجهًا لوجه، أو تخترق سهام نظراتهما قلبَ الآخر. جبران خليل جبران اللبناني الأصل، رائد النهضة الأدبيّة الحديثة الذي يقول عنه الشاعر والأديب إلياس أبي شبكة بعد صدور مجموعته الرائعة «عرائس المروج» و«الأرواح المتمردة» «والتي عبّرَ فيها عن أفكاره المتمرّدة ضدَّ الاستبداد والظلم والإقطاع، وكانت الناشئة العربيّة مُتأثرة بأصداء الأجيال الغابرة فلم تستطع البلابل أن تنزع عن مسامعها قطن الماضي المغمّس بصمغ الجهل، فكان على هذه البلابل أن تُنشد فتطرب نفسها حقبة من الزمن إلى أن يتجمَّع من أناشيدها ما يقوى على الماضي فتمحو ترأسه الرثيث، على أنَّ مزامير جبران وأناشيده وعرائسه وأمثاله كانت تعمل في صدور الشباب من حيث لم يشعر وكانت تعاليمه الإنسانيّة المهرقة في قوارير الخيال تسيل على مزالج القلوب فتترك عليها صبابة الحب الكلّي، تنفذُ إلى أخاديد النفوس فتُطهّرها من أوساخ الجهل»، جمعَ بين فن الكِتابة ومهنة الرسم فخُلقَ ليكون فنّانًا بكل ما في هذه الكلمة من معنى، أمَّا الحبيبة فَهي مي زيادة، لبنانيّة الأصل، فلسطينيّة المولد، مصريّة الهوى.. كانت لديها نزعة صوفيّة جَعَلتها في عُزلة روحيّة اعتزلت ما حولها وأطلقت لروحها العنان تنظرُ إلى البحر وتنعمُ بالطبيعة وتستكين في أحضانها، تقول في مذكّراتها (أزاهر حلم باسم) كان مساء المعبد حزينًا، وجوهٌ مكفَهّرة، وكان الدير صامتًا كتومًا مرمريًا كالمقابر القديمة يضن بخفاياه. يقول ابن السبكي في طبقاته (إن المتصوّفة هم أهل الوجدان والعِبَادة) فالأدب الصوفي والذي أرى لِميّ نزعة إليه هو أدب الوجدان الحيّ المُتقد بإشراقات الوَجد ومواجيده، وهو الأدب العاطفي أدب الحب الكوني والحب لكل شيء في الوجود فالأدب الصوفي كلّه وله ووجَد وحنينٌ وإخلاص. ويؤكد جلال الدين الرومي أنَّ الأدب الصوفي يحتوي على عاطفة صادقة وتجربة عميقة كما برعَ في أدب المناجاة وهو ما فعلته مي في مناجاتها لجبران عبر رسائلها تولعت بالحب على الرغم من آلامه وهل هُناك حبٌ أسمى من ذاك الذي يولده ألم الحبيب الذي نحبّه رغم الألم، يقول ابن الرومي «يا من هو عزاء النفس في ساعة الغم والحزن يا من فيهِ غناء الروح عند مرارة الفقر والعوز فليس لي مُراد غير حبّك»، كل شيء يزول ويبقى نور الحب خالدًا سرمديًّا». رأت مي في الحب نغمة روحيّة لا غِنى عنها، تقولُ مي: «كان الكتاب والقلم خير جليس لي أطالع بِنَهَم الأدب الرومانسي وأُحس أنَّ الموسيقى تُخَاطبني بلُغة ليس أقرب منها إلى إدراكي وعواطفي، إنّها تنيلني أجنحة وتطير بي إلى عوالم لا يطرقها غيرها». ورُغم كل هذا كانت لِمي شخصيّة البنت الشرقيّة في حيائهَا وخفرها وهو ما يميّز شخصيّتها. أحبت جبران بصمت دون أن تراه أو تسمعه أحبّته في خيالها شأنها شأن الذين ينشدون الحب لا يبتغون من ورائه متعة جسديّة أو لذّة حسّية فكثيرًا ما يقنع الحب من حبيبه بالكلام والحديث والمناجاة. تردّدت قبل أن تشرع ريشة قلمها لتعرفه بنفسها في أوّل رسالة (أمضي مي بالعربية وهو اختصار اسمي ومكوّن من الحرفين الأوّل والأخير من اسمي الحقيقي الذي هو ماري، وأمضي ايزيس كوبيا بالفرنجيّة غير أن لا هذا اسمي ولا ذاك، إنّي وحيدة والدي وإن تعددت ألقابي). شهد شهرا مارس ومايو 1912م ولادة حبّهما رسالة مي الأولى وجواب جبران عليها الذي أشاد بطموحها الفوّاح والذي يُشبه الزهرة في الأرض البور، وطالبها بالمُضي قُدُمًا في طريقها خدمة للمرأة العربيّة التواقة إلى الحرية والازدهار والتقدّم ودس بين ثنايا رسالته أهم وقائع ماضيه ونظرته إلى الحياة والإنسان!!. وبدأت الرسائل بين نيويورك مقر إقامته والقاهرة مهبط فؤادها العاشق لتكون قاموسًا للعاشقين، يقولُ لها في إحدى رسائله (لقد طالت رسالتي ومن يجد لذّة في شيء أطاله، ابتدأت بهذا الحديث قبل نصف الليل وها قد صرت بين نصف الليل والفجر ولكنني إلى الآن لم أقل كلمة واحدة ممّا أردت أن قوله عندما ابتدأت، إنَّ الحقيقة الوضيعة فينا ذلك الجوهر المجرّد ذلك الحلم الملتف باليقظة لا يتخذ غير السكون مظهرًا وبيانًا، نعم كان بقصدي أن أسألك ألف سؤال وسؤال وها قد صاح الديك ولم أسألك شيئًا كان بقصدي أن أسألك مثلًا ما إذا كانت لفظة «سيّدي» موجودة في قاموس الصداقة لقد فتشت عن هذه اللفظة في النسخة الموجودة لدي من هذا القاموس ولم أجدها فاحترت بأمري غير أنني أشعر إنَّ نسختي هي النسخة المصححة، ولكن قد أكون غير مصيب، هذا سؤال صغير، أمَّا الأسئلة الكبيرة فسأتركها إلى فرصة أخرى إلى ليلةٍ أخرى فليلتي قد شاخت وهرمت وأنا لا أريد أن أكتب إليك في ظلال الليالي المسنّة وإنّي لأرجو أن يملأ العام الجديد راحتيك بالنجوم، والله يحفظك يا ميّ ويحرسك) صديقك جبران. وكتبَت إليه تقول: (ماذا أنت فاعلٌ هذا المساء وأين تقضي سهرتك، أطلب إليك أن تُشركني الليلة في كل عمل تعمل وأن تصطحبني أين ذهبت فإذا اعتليت السطوح لتُلقي النظر إلى العوالم التائهة في اللانهاية فخُذني معك وإذا مضيت إلى نادٍ أو سهرة أو اجتماع أو مسرح فخُذني معك إلى قلب البشريّة، وإذا بقيت مع نفسك عاكفًا على أفكارك وخواطرك خُذني معك إلى وطني). عاشت معه أحلى لحظات عمرها اعترفت له بحبّها ولكنها كانت خائفة ألا يأتيها من الحب ما كانت تنتظره، وبحيائها الشرقي تقول بعد أن صرحت لجبران بحبها «حمدت الله على أنّي أستطيع أن أكتب ما أشعر من دون أن أتلفّظ به لأنك لو كنت حاضرًا بالجسد لهربت خجلًا بعد هذا الكلام واختفيت زمنًا طويلًا فما أدعك تراني إلاّ بعد أن تنسى!».. رُغمَ صالونها الأدبي الذي كان يعجّ بالقادمين إليه من الرجال في قاهرة المُعز ودولة العِلم والأدب والفن آنذاك. لم يستطع أحدًا أن يفجر عواطفها إلاَّ جبران على البعد يعبّر لها في إحدى رسائله بقوله: (كيف حالك وكيف حال عينيك وهل أنتِ سعيدة في القاهرة مثلما أنا سعيد في نيويورك وهل تمشين ذهابًا وإيابًا في غرفتك بعد منتصف الليل؟ وهل تقفين بجانب نافذتك بين الآونة والأخرى وتنظرين إلى النجوم وهل تلجئين بعد ذلك إلى فِرَاشك وهل تُجففين ابتسامات ذائبة في عينك بطرف لحافك، أفكر فيك يا ماري كل يوم وليلة وفي كل فكر شيء من اللذّة من الألم، والغريب أنني ما فكّرتُ فيك يا مريم إلاَّ وقلت لك كفى في سرّي تعالي واسكبي جميع همومك هنا على صدري، وها أنا أضعُ قُبلة في راحة يمينك وقُبلة ثانية في راحة شمالك طالبًا من الله أن يحرسك ويباركك ويملأ قلبك بأنواره وأن يبقيك أحب الناس إلى جبران). عرف جُبران بحب مي وتقديره لها، حيث بادلها إخلاصًا بإخلاص، يكتب لها رسالة في يوم تكريمه: (في عقيدتي أنه إذا كان لا بدّ من السيادة في هذا العالم فالسيادة يجب أن تكون للمرأة لا للرجل، أنا مدين بكل ما هو أنا للمرأة منذ كنت طفلًا حتى الساعة، والمرأة تفتح النوافذ في بصري والأبواب في روحي، ولولا المرأة الأم والمرأة الشقيقة والمرأة الصديقة لبقيت هاجعًا مع هؤلاء النائمين الذي يشوّشون سكينة العالم بغطيطهم، ما أجمل رسائلك يا مي وما أشهاها فهي كنهر من الرحيق يتدفق من الأعالي ويسير مترنّمًا في وادي أحلامي بل كقيثارة أرفيوس تُقرب البعيد وتبعّد القريب وتحوّل بارتعاشتها السحريّة الحجارة إلى شُعلات متّقدة والأغصان اليابسة إلى أجنحة مضطربة، وينعى إليها جبران 1931م فذاقت حُرقة الألم ولوعة الفراق فساءت حالتها وضعفَت صحّتها فأقفلت أبواب صالونها الأدبي المتعاظم في وجوه روّاده، وانزوت في وحدتها تُصارع الشوق وتُكَابد لواعجه مرددة هكذا الإنسان يقدر والقدر من ورائه تصرّف وإن الحياة مهما طالت فلا بدَّ أن تتحوّل يومًا إلى مجرّد ذكرى، وخفقت روحها خفقتها الأخيرة عام 1914م ليتركا لنا تراثًا من الحب الرومانتيكي تفتقده أجيال الحاضر بل لا تعلم عنه شيئًا. [email protected]