يوشك أن يتشعث المسلمون -إن لم يكونوا قد تشعثوا- «إلا ما رحم ربي» بين ظالمين كبيرين غير منظورين إلا في أثرهما المخيف الطاغي، الجهل الظالم «هذا الأول» والفهم الظالم «هذا الثاني»، وإذا كنا نقول إن الجهل قد يمكن الحد من أثره لأنه صفة سلبية ولأنه أصل ولأنه قد يخيف بعضه فينتهي بعضه عن بعضه، أو أنه قد يتعطل بأعراف الجماعات الإنسانية وتقاليدها، فما الذي يمكن أن نقوله عن الفهم الظالم؟ الفهم الظالم هو الفقه الذي يعثر في نفسه فيكون أشنع أثراً من كل جهل ومن كل ظلم وظالم. الفقه حين لا يفقه يكون ظالماً في ثوب ناسك ورع تقي، وما هو بناسك ولا ورع ولا تقي، ووجه الأزمة في هذه المسألة أنها تتحول –أحيانا- إلى ثقافة مقيدة في نفسها واثقة في ضميرها معلية لهذا الضمير المأسور عن احتمال الخطأ وعن احتمال الضرر أيضا. ومع أن هناك ارتباطاً بدهياً بين الدين والفهم فإنه ليس هناك ما هو أشد ضرراً على أي دين سماوي من الفهم الظالم، والفهم الظالم هذا ينصب نفسه حاكماً على الدين وهو لا يشعر. إن العقل يتحول إلى سلطة موجهة محتنكة للمعنى، وإذا اشتغل أي عقل غير معصوم على المعنى الديني فإنه قد يعصف به ويخرجه عن روحه تماماً حين يكون غير متحرز وحين يكون ظالم الفهم محدود الفقه ضيق النظرة. ومن غير المتعذر أن نقيس هذه الفكرة بالواقع، واقع المسلمين اليوم ومن قبل أيضا، ذلك أننا حين نستقرئ تأزمات المسلمين في التاريخ لا نجدها تنفك عن أزمة المعنى الديني في أذهانهم أيا كانت هذه التأزمات، في مستوى الأشخاص أو علاقات الأشخاص أو المجتمعات «الدولة اليوم أنموذج الكتلة الاجتماعية الكبيرة بشرطها الجغرافي والسياسي» أو علاقات المجتمعات «علاقات الدول بشرطها الجغرافي والسياسي أيضا» وينبني على ذلك أن نذهب إلى القول: إن كل سلوك بشري يكون أخطر ما يكون إذا انبنى على معنى ديني خاطئ وهو ما يترتب على فهم ظالم للنص الديني المستعلي وهو ما ينتج عن ضعف كفاءة العقل وفقهه، ويكون الأمر بهذا السوء لأن الناس لا يتعاطون مع ما يرونه مبدأ دينيا -وإن كانوا مخطئين- بطريقة قابلة للمراجعات قدر ما هي حاسمة متهورة أحياناً، مع أن التحرز وتقليب الأمر وتكرار النظر ضرورة حالما يكون الواقع منتهكا بالصراع. هذا الصراع في العادة تابع ولاحق لفتنة الفهم وفتنة الأغراض، وفتنة الفهم كثيرا ما تكون وقوداً لفتنة الأغراض، وقد يكون الغرض دينياً هو أيضا ومثال ذلك صراع المذاهب، أو شهوانياً ومثال ذلك صراع الحاجات وفي ذروتها حاجة السيادة والبقاء -حتى في مستوى الدول- وهي الكارثة التي تتلظى مجتمعاتنا الإسلامية -بعضها بطبيعة الحال- بلظاها في عنف شديد العتو والتخريب. هذه الجماعات البشرية المسلمة المحايدة، من هو الظالم الذي فتت كيانها ومزق شملها وشعث أمرها؟ إذا كنا نتوهم أن أحدا يمكن أن يمزق الملتئم من خارجه فنحن تبريريون. إذا نظرنا إلى الكيان الاجتماعي المسلم بوصفه بنية اجتماعية ملتئمة، فإنها وبالقياس على فكرة «البنية الواعية الدافعة» لا يمكن تفتيتها بسبب من خارجها بأي صورة، وفكرة «البنية الواعية الدافعة» تعني أننا بإزاء بنية عاقلة ذات قوة دافعة ممانعة واعية في وسعها صناعة ظرفها في الزمان والمكان. وحين نقول بكون هذه البنية معادلة لمفهوم الدولة الحديثة بكيانها السياسي والاجتماعي فإن اقتضاء هذا أن نقول: إنه لا يمكن تمزيق هذه البنية إلا بفقد شرطها الذي هو «الوعي والدفع» وهذا لا يحدث في العادة إلا حين تتصارع الأفكار صراعاً مادياً، إما بتبع الأغراض الشهوانية ونزعات العلو عند المتخاصمين أو بتبع أزمات الفهم الظالم في تنازع المعنى الديني الصحيح للاستحواذ عليه بدعوى عصمة الفهم والفقه وهو ما لا يقره حتى المبدأ الديني نفسه، إذ هو لا يقول بالعصمة في حق عامة الناس وإن كانوا في منزلة العلماء والفقهاء قدر ما يقول بالاحتمال، وليس من خلاف على أن ورود الاحتمال هذا مقيد بتعذر الدليل القاطع بالثبوت والدلالة، غير أن التباسات الواقع اليوم وحجم التبعات المتعاضلة المتراكبة المريعة التي تبلغ درجة أن تتحول بنية المجتمع المسلم معها إلى شعث متناثر، أقول: إن هذه الالتباسات والتبعات توقع النزاع والفهم وبالتالي الرأي الفقهي الذي يتلمس «كيف ينظر الدين إلى مثل هذا الواقع؟»، توقع ذلك كله في الحيرة والتردد وأحيانا في شلل العقل المسلم عن أن يفعل شيئاً يفك به عقدة هذا الجحيم الذي يبعثر المبعثر ويشعث المشعث ويطال العقل السياسي والفقهي وحتى عقل العامة الذاهلين الحائرين. إننا إذا ذهبنا نتتبع جذر هذه التأزمات المتماوجة فإننا لن نعدم أن ندرك أنه يتقاسمه الظالمان الكبيران، الجهل الظالم والفهم الظالم وهما ظالمان تاريخيان ولادان تتناسل منهما ذرية شيطانية لا تقل فداحة عن فداحة يأجوج ومأجوج، ومع أنني ما رأيتهم من كل حدب ينسلون إلا أنني أدرك مثل ما يمكن أن يدرك من قوله تعالى: «طلعها كأنه رؤوس الشياطين»، وقد ندرك بالتصور والاحتمال ما لا يمكن أن ندركه بالحقيقة والقطع، أعني أن مدركات المتخيل قد تكون أشد سطوة من مدركات الواقع المحدود. وعليه فإن هذه الذرية الشيطانية قد تكون في صور الآراء الفقهية الشاذة أو التدين المتشدد المتهور الغالي أو الآراء السياسية المتحيزة، أو حتى في الصفات المضطربة لشخصية وبنية الكيان الاجتماعي العاجز عن القيام بأمر نفسه إلى ما لا ينتهي من عوامل التعرية. هذا الذي أدركه، أن هناك عوامل تعرية في الطبيعة تقابلها عوامل تعرية في البنية الذهنية لمجتمعاتنا الإسلامية، وأكبر عاملين هما هذان الظالمان. لن تكون هناك أزمة اجتماعية ولا سياسية ولا حتى مذهبية إلا وهي تُسقى بماء الجهل الظالم والفهم الظالم، وسيكون من القابل للفهم كيف أن هذين الظالمين هما اللذان بذرا بذرة «تفكيك الفكرة الدينية»، وتفكيك الفكرة الدينية هذا هو الذي فتتها إلى مذاهب ومذهبيات أحلت الفرع محل الأصل والجزء محل الكل ثم حولت بعد ذلك براءة الدين ونزاهاته وتمحضه للحق والعدل والسلام إلى تعصبات وصراعات بين الطوائف والمذهبيات. هل يمكن أن يتصور أحد أن نصنع من الدين الذي نقض الجاهلية، جاهليات جديدة بأثواب وألوان فاقعة لا تسر الناظرين؟ هذا طبيعي، إذا نحن علمنا أنه قد تكون الجاهلية الأولى أوسع أخلاقا من جاهلياتنا الجديدة لولا لوثة الوثنية التي لا تغتفر. الجاهلية الأولى كانت تغيث الملهوف فمن يغيث الملهوف اليوم؟؟ وكانت متماسكة على باطلها فلماذا أسلمنا الحق للظالمين ينكلان به؟ إن الجهل الظالم قد يكون فقهياً بانعدام الفقه في العامة وسواد الناس وقد يكون بالعبودية للفهم الظالم الذي هو ضلال الفقه عن إدراك المعنى ليذهب يصنع معناه فلا يكون ذلك المعنى تدينا قدر ما هو نقيض الدين والتدين. إن الفقه حين يفقه ينبغي أن يكون منشغلا بإبقاء الذي سميته «البنية الواعية الدافعة» والبنية الواعية الدافعة هذه لا تبقى إذا تحول الناس إلى فريقين -فضلا عن فرق- متصارعين يتغذيان بالجهل الظالم والفهم الظالم، وإذا نحن عدنا لنتصور «المسلمين كلهم» بنية واعية دافعة، فما الذي يبقى منها اليوم يعي أو يدفع، وهم لا يلمون شعثهم بأيديهم؟ الوعي نقضه الجهل والدفع نقضه الفهم الظالم أو الفقه الذي لا يفقه، ولكي يبقى المسلمون كلهم أمة واعية دافعة فإنهم بحاجة ليدركوا أن التغيير من فعل التاريخ، أي أنه تاريخي «تصنعه الأجيال» ليس من فعل التنازع، إلا أن يكون تغالب وتنازع أفكار وفلسفات العلم وإلا فهو بعثرة المبعثر حين يعتو الظالمان التاريخيان الولادان الكبيران.