في ظل الصراع التقدمي والتقني المهول أصبح لزاماً على العقل الإنساني ألا يكتفي بإحراز النجاح وكفى، ولكن عليه أن يرنو ويتطلع إلى التميز والتفرد من خلال تخصصٍ يكون هو فيه العنصر الرئيس المُجد والفعّال ليبقى في مصاف الصفوة الفكرية وعلى رأس الطفرة العلمية الهائلة التي يتسابق لبلوغ ذراها الأفذاذ من النابغين. إن الطريق إلى التفوق يتطلب المعرفة الحقة بطبيعة النفس البشرية استعداداً وتوجهاً ومهارة كي يتسنى توظيف هذه الطاقات الكامنة على بينة توظيفاً صحيحاً، ومن ثم يجب على الإنسان أن يضع يده على مواطن التفرّد وملامح الإبداع ومكنون الفكر المدخر للنهوض من الكبوة السحيقة والغفوة العميقة الضاربة بجذور التقاعس والكسل والخمول والتواكل القابع بين طيات النفس البشرية. إن التفرد يقتضي التحصيل المعلوماتي الغزير والبحث والتدقيق الوفير والتعرف المستمر على الأحياء والأشياء، ويتطلب العمل الدؤوب دون كللٍ أو ملل للوصول إلى الغاية المنشودة، وعلى الإنسان ألا يكتفي بأن يكون نمطاً تقليدياً في هذه الحياة أو نموذجاً عادياً، وإنما عليه السعي الدؤوب ليظل متفرداً في عمله وأبحاثه ودراساته وقراءاته، مترفِّعاً بنفسه عن الوقوع في الدرك الهابط، وهو بذلك لا يشغل عقله بأشياء سقيمة وأفكار عقيمة لا فحوى لها ولا جدوى منها ولا تليق ابتداءً بالكائن –المُكرّم في الأرض-، كن مستشعراً بمدى أهمية موقعك في هذا الوجود وغاية وجودك الإنساني في هذا الكون الفسيح. إن استشعار هذه الغاية بصدق يجعلك متفرداً تسمو بروحك وعقلك وجسدك ونفسك واهتماماتك لتحلق بها في ملكوت علوي كريم (لقد خلقت لأمر لو فطنت له ** فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهملِ)، ومن هذا الصعود والترقي بإنسانية الإنسان جاء التكريم وكانت النفحة العلوية التي يتجلى بها الإنسان ساعياً نحو طموحه وغايته التي خُلق من أجلها، وليس بمجرد أن يتعثر الإنسان ببعض العقبات أو المعوقات تأتي النهاية لتسحق بداخله كثيراً من الملكات والمزايا فتثنيه عن مطامحه العليا وتأخذه إلى واد سحيق من التيه وتحول بينه وبين دربه القويم وطريقه المستقيم، ومن ذلك أن يُحاط بصراعات الحياة المعيشية لتشغله عن هدفه العلمي النبيل وعن تطلعه الروحي وسموه العقلاني. إن التفرد مرتبط بكينونة النفس البشرية ارتباطاً وثيقاً كي يغرس فيها حالته الإيجابية التي تجعل للإنسان واقعاً حركياً ينطلق منه ليكتسب الفرد وضعاً خاصاً كي يتصل من خلاله بالآخر لينصهر الإبداع العلمي بالرقي الأخلاقي في قالب إنساني فريد يدفع بالعقل البشري إلى التميز ملتزماً بمبادئه وبمقتضى هذه المبادئ، يسعى جاهداً لتطوير ذاته في إطار هذه المبادئ، ويكفي أن نعلم أنه حينما اعتنقت أمتنا ذلك الفكر السامي والتعاليم الداعية إلى النبوغ والتفرد كانت في مقدمة الركب الحضاري والإنساني بما توافر لديها من معرفة في المجال الإنساني، فاستقت من هذا النبع مبادئها القويمة، وحينما أفسح الإسلام العظيم الطريق أمام الأمصار وأرباب الأفكار ليدلي النابغون من بنيه كلٌّ بدلوه من علوم في شتى مناحي التخصصات للنهوض بالبشرية تعليماً وتوجيهاً وتثقيفاً، وكان ذلك من خلال تشجيع العلماء والباحثين وتطويرهم وتزويدهم بكل معلوماتيٍّ جديد، وفي ظل هذا الاهتمام بالعلم والعلماء ازدهرت الأمة في كثير من المجالات وعمَّ خيرها العالم من خلال دعمها العملية البحثية، وكان التواصل الحضاري خير شاهد على هذا النهوض وتلك الطفرة الإنسانية التي بزغ نورها وسطع ضياؤها ومضى ركبها إلى عالمٍ تقدمي. إن التفرد جعل الآخرين يتوددون لجماعة المتفوقين والطامحين إلى الرقي العلمي، يسترشدون من خلالهم بملامح الحضارة الإنسانية التي راحت تقود هذا الركب الحضاري بفكر علمي مستنير يتوشح بماهية البحث ومدلول الثقافة الباعث على القيم الإنسانية العليا، الذي يتسم من خلالها بسمات الصمود والتحدي، وكذلك التصدي للتيارات الهدّامة الداعية للنكوص والتراجع عن الهدف العلمي النبيل. إن هذه العقول كانت بمنزلة الأرض الخصبة التي ترعرعت فيها هذه القيم السامية والأخلاق الحميدة التي انبثقت من ذلك الضمير الإنساني الرامي إلى كل حداثي وتقدمي وفريد، وذلك لاستشعاره عِظم التبعة الملقاة على عاتقه في قيادة البشرية قيادةً علمية تقوم عليها معالم حضارية، ومن ثم يكون هذا التفرد النابه من أعظم سمات هذه الحضارة التي عاشت قروناً عديدة جعلت من الوازع العلمي والورقة البحثية توجهاً قوياً نحو العملية النهضوية، ليغدو بذلك المسار البشري في طريقه الصحيح. إن العلم والبحث والتفرد تنصهر جميعاً في بوتقة واحدة للوصول إلى خير البشرية، وذلك يكون الناتج والمحصل الطبيعي للعمل الدؤوب لجماعة العلماء من المتميزين وأرباب النبوغ والتفرد دائمي البحث في أسفار المعرفة بعقولٍ وقلوبٍ تهفو إلى إيجاد نمطٍ فريد للإبداع بإرادة لا تلين وعزم لا ينثني وروح لا تمل ولا تهدأ إلا بالوصول إلى الحقائق ثم تعاود مسيرتها بحثاً عن كل جديد، ولا يتوقف الباحث عن التنقيب عن تلك المستجدات الحضارية، فهو لا يعرف حدوداً للعلم. لقد مرت البشرية في حقب كثيرة من التيه والحيرة والتخبط إلى إن وصلت وخلصت إلى مرحلة كان العلم والمعرفة فيها هما الحد الفاصل والذراع القوية القادرة علي طي صفحة الجهل والفقر والمرض والخرافة والتردي. إن الأمم التي صنعت لنفسها مجداً شامخاً ترصّع بلآلئ من حبات العرق وتشبَّع بنور العلم وتوهجه فزادها بهاءً وجمالاً وروعة، وأضاء لها مشاعل المعرفة والتنوير بنوره الذي يهتك عتمة الظلمات والخير الذي يملأ الطرقات والنسيم الرقيق الذي يداعب حُمرة الوجنات لجماعة الرقي والعلم والتميز، التي آن لها أن تتبوأ مكانتها تحت الشمس لتعدو وتنطلق من مركزها الدافع بترياق الحياة في عروقها، لتنتفض وتعيش بين الأحياء عازفة لعموم البشرية سيمفونية التفرد الرائعة. إن عصرنا الحالي يدفعنا دفعاً نحو الإبداع والارتقاء كي يتسنى لنا معرفة المستحدثات والمستجدات العلمية، ولا نكتفي بالمعرفة المجردة فقط، وإنما هي خطوة لها ما بعدها من توظيفٍ جاد لهذه الحصيلة العلمية ليتم تشييد النظرية على أرض الواقع والعمل على إضافة اللمسات المتفردة للإبداع، مما يجعل الركب البشري جديراً بقيادة الإنسانية نحو سنام الهرم العلمي الشاهق، والعمل على التطوير والتحديث يوماً بعد يوم. إننا لدينا إرث حضاري عملاق بمدخرات ثقافية وعلمية تجعلنا على هام الصدارة، ومن ثم علينا أن نتزود من الماضي لنواجه الحاضر ونصنع منه المستقبل بعقول واعية وعزائم متأججة ونفوس مفعمة بالأمل للحاق بالركب الحضاري والتفرد بطلب العلم أينما كان وحيثما وُجد. إن التخصص العلمي يقود الباحث دوماً إلى التفرد المستنير، وذلك من خلال استجماع القوى الفكرية في عملٍ موحد باعثه الأول إلى ذلك المرتقى هو النهوض بالعملية البحثية في قطاعٍ علمي يتفرّد من خلاله المتلقي لهذه العلوم الحياتية، وذلك يكون بتقديم طرحه الجديد لجماعة النبوغ والتفرد، وفي النهاية يبقى الفكر البشري في عطاءٍ متجدد طالما كان هدفه الداعي للرقي والتقدم يرنو إلى ربوته السامقة دوماً، ليتجلى التفرد في عالمه الإبداعي مزدهراً في الحقل البحثي للإبداع والتفوق.