ذكر العالم المصري الدكتور أحمد زويل الحاصل على جائزة نوبل في إحدى المناسبات أنه تلقى تعليمه الابتدائي في زمن الرئيس جمال عبدالناصر، وامتدح مستوى التعليم آنذاك، ثم فوجئ في صباح اليوم التالي بمقالة عنوانها (د. زويل الناصري) نشرتها إحدى الصحف المصرية، وحين كتب د. مصطفى حجازي كتابه (سايكولوجيا المقهورين) توقف طويلاً عند آفة أخرى غير آفة التصنيف هي الاختزال، والحكم الفوري الحاسم على الأفراد، دون احتكام إلى أية قرائن أو حيثيات، فهذا يساري، وذلك يميني وما بينهما ليبرالي.. وحوّل المرأة من كائن إنساني إلى مجرد وظيفة، ثم حوّل المواطن إلى مجرد رقم أو صيغة. وفي عالمنا العربي ينتشر التصنيف كانتشار النار في الهشيم، حيث لم يبق مواطن عربي إلا وتم تصنيفه، من الماركسي إلى الشيوعي، والبعثي، والليبرالي والرأسمالي والاشتراكي والكنفوشي، والحداثي، والتقليدي، والمتخلف، والرجعي، والإسلامي، والأصولي، والمتطرف، والإرهابي، والشيعي، والسني، ثم الدخول في تفاصيل المذاهب، فالسني لا يعجبه العجب ولا يكتفي بأن الآخر يختلف معه في المذهب، وكذلك الشيعي فهناك المدرسة الأصولية والإخبارية، ثم المذاهب الأخرى الشيعية، وهكذا الحال أصبح الفرد من أبناء المجتمع يتم تصنيفه وهو في عالم الذر، ووصلت بنا الأمور أن نكفّر ونفسّق مَنْ لا يتفق معنا في أفكارنا وأطروحاتنا، ونسينا هويتنا الوطنية والجامع الذي نجتمع حوله ألا وهو الوطن الحبيب، الذي كرّمه نبي الأمة محمد (صلى الله عليه وسلم) بأن (حب الوطن من الإيمان)، فابتعادنا عن هويتنا، واختزالها في هذه الأطر الضيقة، والإصرار على ترسيخ هذه الحالة السلبية وتجذيرها في مجتمعاتنا أدت بنا إلى التخلف والتدهور على مختلف الأصعدة التنموية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأصبحنا نموذجاً سيئاً للمجتمعات الأخرى للاستهزاء بنا، بل دفعنا بتلك المجتمعات الغربية أن تتجرأ علينا عبر مس شخصياتنا ورموزنا الدينية، كل ذلك بسببنا نحن من خلال ممارساتنا السيئة التي لم تدع مجالاً للعودة لتصحيح هذا الوضع المؤلم، ولعل استعراض بعض الأسباب التي أدت إلى ذلك، في مقدمتها التربية العشوائية، وتلقين الأطفال مواعظ ومقولات يتم بناؤها في عقولهم، بحيث تتم تربيتهم على ذلك، فيصبح التصنيف لديه الأساس في تقييم أبناء المجتمع، وإقصاء الآخر تحت مظلة التصنيف من أجل الاستفراد والسيطرة على المركز، فالآخر لا وجود له إلا إذا كان مجرد ظل أو صدى، والفرد المتميز والكفء هو الذي يمتثل كلياً لما يتسلط عليه من ثقافة ومفاهيم، وقد تكون الفردية والاعتراف بها حلقة مفقودة في ثقافتنا العربية، فنحن قفزنا من القبائل إلى الأحزاب، ومن الأسرة إلى المذهب ثم إلى الجماعة الدينية. كل هذه الإسقاطات والهوية الوطنية تتزعزع أمام هذه المهاترات التي أخذت تشكل الهوية الوطنية والبديل عن الوطن، وأصبح المجتمع يقيم المبادئ على هذه المحسوبيات بعيداً عن العقل والحكمة، ومحبة الوطن.. وقد لا ندرك أحياناً عواقب تصنيف الناس سياسياً أو دينياً أو مذهبياً وفكرياً، لأننا بحاجة إلى خيال حيوي لتصور تلك العواقب، خصوصاً أننا في مجتمعات تعشق الشائعة، وتعتبرها أرقى تسلياتها على الإطلاق.