انشغل رياض بترتيب أوراق اللعب ليوزعها من جديد على رفاقه الثلاثة وهم يتحلقون حول طاولة خشبية في احدى الاستراحات على شاطئ مدينة غزة المحاصرة. الشبان الأربعة يأتون بشكل يومي إلى هذه الاستراحة بعد أداء صلاة التراويح في أحد المساجد القريبة... ويستمرون باللعب حتى منتصف الليل. المكان كان كخلية نحل يعج بعشرات الشبان من مختلف الأعمار، فمنهم من كان يدخن "النرجيلة"وهو يتابع مسلسل "باب الحارة 4" السوري على احدى القنوات الفضائية العربية على تلفاز وضع في منتصف قاعة واسعة، وآخرون يلعبون النرد. وبعد أن وزّع رياض 30 عاماً الأوراق على رفاقه بدؤوا لعبة جديدة وكل واحد يمسك بعناية فائقة الأوراق ليرمي بعضها بحذر على الطاولة الخشبية. وصاح رياض بأعلى صوته على أحد العمال في الاستراحة يدعى "محمد" وطلب منه إحضار نرجيلتين وأربعة أكواب قهوة مذاقها حسب رغبة كل واحد من رفاقه. وبعد أن احضر "محمد" الطلبات بدأ رياض بوضع جمرات من الفحم على رأس أرجيله مملوء بالمعسل ومغطى بقطعة من ورق القصدير "السلفان"، وأخذ يسحب بكل قوة من الخرطوم حتى يسخن الرأس. "لا توجد أماكن للسهر والتسلية في مدينة غزة نذهب إليها في هذا الشهر الفضيل سوى هذه الاستراحة" قال رياض: وهو ينفث بقوة سحابة من الدخان الأبيض لتعبق المكان. "غزة محاصرة ونحن نعيش بسجن كبير ولا نستطيع السفر إلى أي مكان في العالم كباقي الشبان في الدول العربية"، أضاف رياض الحاصل على بكالوريوس اجتماعيات من جامعة الأزهر في مدينة غزة. واستدرك قائلاً: " في غزة الحياة ميتة لا طعم لها ولا لذة فيها بسبب الحصار الذي يخنقنا جميعاً'، متسائلاً 'أين نذهب لا توجد أماكن خاصة بالشبان لقضاء وقتهم فيها بعد الإفطار مثل: الخيم الرمضانية التي تنتشر في الدول العربية، أو حتى أماكن لممارسة هواياتنا؟!" وفجأة ارتفع الصراخ في المكان بعد انتهاء اللعبة ، وكان زميل لرياض يدعى "سامي" مزهواً بسبب فوزه. سامي (27 عاماً) يقول: 'أحضر يومياً الى هذا المكان لقضاء بعض الساعات مع أصدقائي في التسلية والسمر." "نأتي الى هنا للعب الورق وتدخين النرجيلة وتناول بعض المشروبات الساخنة والباردة فقط" قال سامي. وكانت تنبعث من المكان بين الفينة والأخرى أصوات لبعض الزبائن مطالبة العمال باحضار جمرات من الفحم، أو طلبات جديدة لهم. التعب بدا واضحاً على العامل "محمد" من شدة تلبية طلبات الزبائن، وقال: 'كل يوم من بعد صلاة التراويح وحتى منتصف الليل وأنا واقف على أرجلي لتلبية طلبات الزبائن". واشتكى "محمد" من سوء طباع بعض الزبائن الذين لا يكترثون لتعبه ويكثرون من الصراخ لتوفير ما يريدونه. وعلى طاولة ليست ببعيدة عن مكان جلوس رياض ورفاقة، كان يجلس صاحب المقهى رمضان أبو سيف "أبو جميل" يراقب الوضع عن كثب. وقال: "الحمد لله الشغل ماشي مية بالمية ولا توجد أية مشاكل"، مشيراً الى أن استراحته هي استراحة شعبية يرتادها الرجال من مختلف الأعمار والطبقات الاجتماعية فتجد الطالب والطبيب والمهندس والعامل وغيرهم. وأضاف أبو سيف وهو يضع قبعة بيضاء على رأسه، "سمعة محلي مثل الليرة الذهب ولا أسمح بأي خلل لا سمح الله فهي مصدر رزقي وكذلك لعمالي الذين يعيلون أسر كبيرة." وبعد أن جال ببصره في أركان استراحته قال ابو سيف: " انظر المكان مكتظ عن بكرة أبيه الكل يأتي هنا هرباً من هموم الدنيا ومشاغلها ولقضاء عدة ساعات في التسلية."