فضّل عدم ذكر اسمه مكتفيا بالحرف "ش" رفض الحديث عن ذكرياته المتعلقة بالمجزرة الرهيبة وحتى حين حاول طاقم انتاج فلم "ولاس وبشير" إثارته للحديث عنها مؤكدا له بان كل رفاقه تحدثوا وأدلوا بشهادتهم رفض وادعى بأنه لا يتذكر شيئا، لكن عبء الذاكرة اجبره أخيرا على التحدث أمام زوجته وعدد من أصدقائه ونشرت الشهادة "غاليت اكسلور" على موقعها الخاص لتجد طريقها أخيرا لموقع "هآرتس" الالكتروني الذي نشرها يوم الخميس. أدلى الجندي "ش" بشهادته أثناء لقاء عائلي خلال الاحتفال برأس السنة العبرية الماضي حيث أثارت طقوس العيد وتقديم العسل والتفاح ذكرياته القاسية ففتح صندوقه الأسود إمام زوجته وعدد من الأصدقاء مطالبا الحضور بنشر الشهادة وعدم كتمان شيئ منها مع ضرورة إخفاء هويته واسمه الحقيقي. حين وقعت المجزرة كان " ش" في التاسعة عشرة من عمره وهو أحد تلاميذ المدارس الدينية اليهودية لكنه ترك المدرسة والدين أيضا أشهرا قليلة قبل استدعائه للخدمة العسكرية الإلزامية، استهل شهادته بقوله "أصابتني مذبحة صبرا وشاتيلا بصدمة الحرب وفي النهاية ألقى الجيش بي خارجا وسرّحني من الخدمة". وعاد الجندي "ش" إلى سجل ذكرياته واسترسل بالحديث قائلا "وقع الأمر في عصر يوم جمعة حيث أحاطت سرية دبابات الميركافا التي أخدم فيها بالطرق الترابية المحيطة بمطار بيروت الدولي، وحضرت شاحنة عسكرية لمكان تمركز السرية حيث زودتنا باحتياجات العيد مثل العسل والبيض وتشكيلة واسعة من السلع والإغراض التي كنّا نقايضها مع السكان المحليين مقابل تزويدنا بالحشيش الفاخر وكنا نبتاع بالعملة الإسرائيلية من سوبر ماركت الحي 7UP السكاكر وسجائر (الكنت) الرخيصة مقابل الأسعار السائدة في إسرائيل". وواصل الجندي سرد ذكرياته "قُتل بشير الجميل قبل ذلك بيومين فابلغونا بأننا سننتقل إلى قطاع عسكري أخر، وكان علينا السير بالدبابات لعدم وجود وقت لاستدعاء الشاحنات الناقلة اضافة لوجود فلسطينيين يتمركزون على شرفات المنازل ويطلقون النار باتجاه السيارات العسكرية على الطريق". واثناء سيرنا على الطريق الترابي المحيط بمطار بيروت صعدت دبابتنا على تلة ترابية صغيرة بجانب الطريق فتحطمت كل حاجياتنا التي حزناها في قرب برج الدبابة واندثرت داخل الدبابة فدنست كرتونة بيض وعلبة عسل زجاجية ملابسنا ولم يتوفر لنا الوقت لتغييرها كوننا كنا في حالة حركة، وبعد ساعتين تقريبا وصلنا إلى جدار مبني من الحجر يرتفع ثلاثة أمتار تقريبا فيما تمركز الضباط في بناية مهجورة من خمسة طوابق على بعد عدة مئات من الأمتار من الجدار الحجري تواجد فيها جميع الضباط الذين كانوا يراقبون المخيم وما يجري داخله وبعد ساعة أو ساعتين وصل حوالي 70 مقاتلا من حزب الكتائب يرتدون ملابس عسكرية نظيفة وأحذية تلمع من شدة نظافتها ويحملون بنادق إسرائيلية الصنع من طراز "غليلي قصير" ويرتدون دروعا وجعب إسرائيلية فوقفوا على شكل مجموعات ثلاثية ضاربين بإقدامهم الأرض وكأنهم يقفون في طابور صباحي فيما صعد قائدهم للتحدث مع قائد اللواء الإسرائيلي أو قائد الكتيبة المشغولين بمراقبة المخيم عبر نقطة المراقبة الكائنة في الطابق الخامس من البناية. وهبط الظلام فيما لا زلنا واقفين بانتظار الأوامر لمعرفة ما يتوجب علينا القيام به ومن احتاج قضاء حاجته كان ملزما بالخروج من الباب الخلفي للدبابة حيث تم إغلاق جميع فتحات الدبابة تحسبا لوجود قناص فلسطيني خلف الجدار الحجري قد يباغتنا بإطلاق النار وبعد نصف ساعة تقريبا وصلت من المكان جرافة إسرائيلية "شوفل" وبما ان دباباتنا "دبابتين وناقلة جند تابعة للواء المظليين" كانت مرصوفة بمحاذاة الجدار اضطررنا للتحرك حتى نفسح المجال للجرافة فيما واصل مقاتلو الكتائب استعراضهم قامت الجرافة بفتح ثغرة بالجدار لقد كان بإمكاننا مشاهدتهم "الكتائب" عبر منظار الدبابة دون ان نسمعهم فيما تركنا الباب الخلفي للدبابة مفتوحا وذلك لان الجو داخلها كان خانقا بسبب البيض والمعجنات والعسل الذي تبعثر على ارضية الدبابة فكانت كل خطوة داخل الدبابة تشبه سيرنا في منطقة موحلة. وبعد ان أنهت الجرافة عملها وغادرت المكان انتظم مقاتلو الكتائب مرة أخرى مجموعات ثلاثية ومن ثم دخلوا المخيم فيما بقينا داخل دباباتنا وطلب قائد الكتائب من قائدنا إطلاق قذائف إنارة فوق المخيم لان الظلام بدأ بإسدال خيوطه فتسللت إلى مسامعنا عبر الباب الخلفي للدبابة أصوات إطلاق كثيف وصرخات عاليه خاصة صرخات صادرة عن نسوة والكثير من بكاء الأطفال وبشكل عام صرخات كثيرة، وطيلة الليل وبفارق ربع ساعة تقريبا أطلقت ناقلة الجند الواقفة بجوارنا قنابل إنارة فوق المخيم فأحالت ليله نهارا وحين تنطفئ إحدى قنابلهم كانوا يعاجلون بإطلاق قنبلة أخرى بدلا عنها. لم تقع الكثير من الإحداث عندنا فكنا نخلد للنوم بين قنبلة وأخرى دون أن نتمكن من استبدال ملابسنا القذرة بالكثير من البيض والعسل فيما نام سائق الدبابة على الكرسي الخاص بالسائق والمسؤول عن تلقيم المدفع بالقذائف نام تحت مدفعه وزحف القائد نحو الباب الخارجي حيث وجد متسع للنوم على أرضية الدبابة القذرة وانا وبصفتي "مدفعي" الدبابة نمت على الكرسي الخاص بالمدفعي مسندا رأسي على سبطانة المدفع. استفقنا صباحا من نومنا وخرجنا خارج الدبابة وكان البكاء والصراخ يأتينا من كل حدب وصوب فصعدنا على الدبابة وأطلقنا النار خلف الجدار الحجري وكانت أكوام الجثث على مدخل كل بيت وزاوية واخذ بعض الجنود يصرخون علينا ويتحدثون لنا قائلين "انهم يقتلون الجميع ماذا تفعلون". وكان مسؤول الرقابة في مجموعتنا جنديا جاء أصلا من سلاح الجو ولم يكن يعلم شيئا عما يجري في الخارج فصعد إلى الطابق الخامس ليتحدث إلى القادة والضباط فعاد وقال لنا: "إنهم يشاهدون ويعرفون كل ما يجري وعلينا عدم التدخل انه صراع داخلي بين الكتائب والفلسطينيين وعلى كل حال فإن القادة يقدمون تقاريرهم حول ما يجري للقادة الأعلى منهم وحتى اللحظة لا توجد أية أوامر للقيام بشيء ما لذلك علينا الجلوس هنا حتى نتسلم الأوامر". انتصف النهار وشرعنا بغسل وتنظيف الدبابة وغسلنا بعض ملابسنا وعلقناها على حبل نصبناه بين دبابتين وتوفرت لنا الكثير من المياه فيما تواصلت الصرخات والبكاء القادمة من خلف الجدار دون أن نعرف ماذا علينا أن نفعل فقط ننتظر الأوامر. وسمعت في ذات الظهيرة صديقي "اورن" حيث كان واقفا على برج الدبابة يسترق النظر إلى ما وراء الجدار يصرخ باتجاه الطابق الخامس ومن يقيمون فيه "إنها مجزرة إنهم يقتلون الجميع هناك" لكن لم نتلق أية أوامر. فرّ شاب في العشرينات من عمره وبدى اكبر مني حيث كنت في التاسعة عشرة من عمري عبر فتحة الجدار فيما استمر احد رجال الكتائب بملاحقته مشهرا بندقية "غليلي" التي يحملها، وقف الشاب خلف ظهري محتميا بي ممسكا بكتفي لقد كان حافي القدمين يرتدي سروالا قصيرا وقميصا "بلوزة" ممزقة وقديمة وكانت رائحته كريهة من شدة الخوف رائحة قوية مثل رائحة القيء ورائحة عرق شديدة قوية وتحدّث إلي مختنقا بالبكاء قائلا "الكتائبي يريد قتلي ساعدني" لقد صرح باللغة الانجليزية "HELP HELP" وتمتم بكلمات عربية باكيا فهمت منها "لقد قتل الجميع ويريد قتلي أنقذني أنقذني" وهنا نظرت إلى قائدي مرتبكا وسألته ماذا افعل؟ فبتسم القائد وغمز بعينه وقال لي "دعهم يقومون بالعمل الأسود" أعطى إشارة للكتائبي يفهم منها بأنه يستطيع جر الفلسطيني الباكي خلفي وهنا تقدم الكتائبي وامسك بالفلسطيني من رقبته وسار معه ثلاث أو أربع خطوات فيما واصل الشاب الفلسطيني رجائي يتنقل بنظراته الحائرة بيني وبين الكتائبي مستعطفا أن نرحمه وهنا أطلق الكتائبي طلقة نارية إصابته في ركبته واخذ الفلسطيني يصرخ ويصيح من شدة الألم جاثيا على ركبتيه صارخا "أنقذوني ........أنقذوني" فأطلق عليه الكتائبي طلقة أخرى أصابت بطنه وحين انحنى من شدة الالم وقارب رأسه أن يلمس حذاء الكتائبي عاجله بطلقة في الرأس وحينها ساد صمت القبور ونظرت لكل ما جرى أمامي مصدوما بشكل تام وكامل حيث كانت المرة الأولى التي أرى فيها الموت قريبا لهذه الدرجة وعاد الكتائبي ليختفي خلف الجدار عائدا الى عمق المخيم ليستكمل مهمة القتل. بدأت سيارات "مارسيدس" تحمل يافطة صحفي بالوصول فأعلن قائدي المكان منطقة عسكرية مغلقة يمنع دخولها وسمعتهم يتجادلون بالعبرية، لقد كان مراسل مجلة "تايمز" الذي قال بأنهم يجمعون الناس أطفال، نساء، شيوخ في الملعب ويطلقون النار عليهم وأن علينا القيام بشيء ما وهنا نزل القائد من الطابق الخامس وشرع بالصراخ على المراسل قائلا "إياك أن تقول لي ماذا عليّ أن افعل وان المنطقة مغلقة بصفتها منطقة عسكرية ويحظر عليه التواجد فيها" وصرخ المراسل على القائد قائلا بأنه قدم الان من الجهة الأخرى للمخيم وسمحوا له بالمرور وشاهد المخيم مليئا بالدماء وان ما يجري مذبحة. هنا بدأنا نحن نتساءل ونشعر بعدم الراحة ماذا يفعلون؟ ماذا يجري هناك؟ ماذا ننتظر؟ وهنا قال القائد "انه فترة أعياد وان رفول (رئيس الأركان الإسرائيلي حينها رفائيل ايتان) يتحدث مع بيغن وربما بسبب الأعياد لا يريدون التحدث هاتفيا مع بيغن لذلك لا يوجد قرار حاليا ولا أوامر". ومرة أخرى وصلت سيارة تابعة للصليب الأحمر واشتكت للقائد في الطابق الخامس بان الكتائب يقتلون الجميع ويمنعون الصليب الأحمر من تقديم المساعدة ومعالجة الجرحى فقال القائد لممثل الصليب "سأنقل المعلومات للجهات الأعلى وفي لحظة تلقينا الأوامر سنتحرك انه صراع لبناني داخلي". وطلبوا منّا مساء اليوم التالي أن نتحرك وندخل المخيم فيما غادره غالبية الكتائبيين وطلبوا منا ركن الدبابات بالقرب من أحد الأبنية ووصل شخص ما يرتدي بدلة للحديث مع القائد في الطابق الخامس وابلغه بوجود عميل للموساد داخل المخيم سيقوم بإرشادنا وحين دخلنا شاهدنا أكوام الجثث في كل مدخل بيت وزاوية وعلى سلالم البيوت، حيث لا زالت الدماء ترشح منها وتغطي السلالم لقد كانت رائحة الدم والجثث رهيبة فصعدنا للطابق الأول من البيت حيث كانت الأبواب مشرعة وفي كل غرفة تناثرت الجثث والأشلاء ملقاة على الأسرة وأرضية البيت والممرات الداخلية ملقاة على ظهرها فيما ثقوب الطلقات واضحة، ووجدنا جثث نسوة يحتضن أطفالهن مقابل باب الغرفة لقد قُتل الجميع فيما بدت علامات الطعن بالسكاكين والحراب "السِّنَج" على بعض الجثث واضحة وجلية وكان الكثير من النساء العاريات أو يرتدين فساتين ممزقة يستلقين على ظهورهن مع رصاصة استقرت برؤوسهن. لم نستطع المكوث في المكان ونزلنا مسرعين لنحتمي داخل الدبابة وبعد أن حل الظلام رأينا شارة ضوئية متقطعة انطلقت من احد نوافذ قبو تابع لبناية تقابلنا فأبلغنا عبر جهاز الاتصال المسؤول بما شاهدناه فوصلت سيارة جيب وخرج احد الرجال من القبو وصعد الى السيارة وانطلقوا بعيدا "عميل الموساد". عج المكان في ساعات الصباح بالصحفيين وكانت الرائحة لا يمكن احتمالها وانتشر في كل مكان صحفي أو مراسل يحملون ميكروفوناتهم فصدرت الأوامر لنا بالتحرك نحو ملعب كرة القدم حيث عج بأسراب طويلة من الجثث المغطاة بالبطانيات والخِرق فقامت جرافة تابعة للجيش بحفر خندق ودفعت الجثث داخلها قبل أن تهيل التراب عليها في قبر جماعي، الأمر الذي ذكرني فورا بالصورة من متحف المحرقة النازية "يد فشم" قال الجندي واصفا مشاعره، ولم اعد أتذكر شيئا لقد اختلطت الأمور في رأسي وذاكرتي وقد عانيت الكثير وتعرضت لحالات قيئ طويلة ومتكررة رغبت بالعودة إلى بيتي باكيا كالطفل الصغير، ما أجبرهم على إعادتي إلى منزلي حيث صعدت مع صديق لي إلى سيارة جيب أقلتنا حتى رأس الناقورة ومنها إلى نهاريا ولم اعد أتذكر شيئا فوصلنا بطريقة ما إلى القدس بعد رحلة لأكثر من 10 ساعات.