في الثلاثينيات من القرن الماضي رفع أحد الباحثين المصريين دعوى أمام محكمة التاريخ تطالب بإعادة النظر بنسب المتنبي، وبالتالي بإعطائه هوية أخرى غير الهوية التي يعطيها له القدماء عادة. رافع الدعوى هو محمود محمد شاكر في كتاب له عن المتنبي استنتج فيه عن طريق منهج تذوق النصوص واستقرائها ان المتنبي لا يمكن ان يكون ابن سقاء في احدى حارات الكوفة، وانه - لأسباب شرحها - ابن أسرة من الأشراف وقد جرى التكتم على نسبةه لظروف معينة وان جلاء هذه الظروف ومعها جلاء نسبه الحقيقي من شأنهما أن يحلا اشكالات كثيرة متصلة بسيرته وبشعره. ومع الوقت لم يبق محمود شاكر وحده فقد انضم اليه باحثون آخرون منهم ابراهيم العريضي من البحرين وعبدالغني الملاّح من العراق وعمر فرّوخ من لبنان ألفوا معاً فريق عمل متجانسا يطالب بإحقاق الحق دون سواه. الذين اطلعوا على الدعوى أشادوا بمتانتها وقوة الحجج الواردة فيها وإن اعتبروا ان ما ينقصها هو «الوثيقة» أو الوثائق التاريخية القديمة التي تقطع بصحة النسب الذي يريد هؤلاء الباحثون إعطاءه لابي الطيب المتنبي دون ان ينفي هؤلاء قوة القرائن المقدمة، والدعوى ما تزال عالقة أمام محكمة التاريخ وتشكل تحدياً أمام الباحثين العرب الذين ينقسمون حولها. وعلى الرغم من تعذر الفصل في الدعوى على النحو الذي يرضي البحث العلمي ويقنع وجهات النظر المختلفة المتباينة فقد بات مقرراً في الدراسات المتصلة بالمتنبي وكذلك بنسبة ان الدعوى التي رفعها محمود شاكر وانضم اليها باحثون آخرون فيما بعد إن لم تكن قائمة على أساس صحيح فلا شك انها خلخلت النظرية التقليدية حول نسب المتنبي ومن الصعب تجاهلها في أية دراسة في المستقبل تتصل بهذا الموضوع. لعل أقسى الصعوبات التي تواجهها هذه الدعوى خلو كتب الأقدمين من أية إشارة إلى ان المتنبي هو ابن أحد الأشراف من آل البيت، أو انه ابن الإمام محمد المهدي على التحديد فالرواة في هذه الكتب وضعوا بين أيدينا عدة أسماء للمتنبي في آن واحد. فبعضهم قالوا انه "أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبدالصمد الجعفي" وغيرهم قالوا انه "أحمد بن الحسين بن مرة بن عبدالجبار الجعفي" وآخرون قالوا انه "أحمد بن محمد بن الحسين بن عبدالصمد الجعفي" وزعم غير أولئك "ان أباه كان شيخاً يسمى عبدان السقّاء وكان جعفياً صحيح النسب". ولكن شعر المتنبي يدل على ان ناظمه ليس جعفياً وانما هو من نسب آخر فلا يعقل ان يكون جعفياً أو ابن سقاء من يقول في مجلس سيف الدولة أمام الأمراء والوزراء والسراة والشعراء الآخرين: سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا بأنني خير من تسعى به قدمُ وتحمل أبيات كثيرة له منها الأبيات التالية تفسيراً مقبولاً للألم الممض الذي كان ينوء به من شدة كتمان نسبه وحقيقة أبيه وأجداده: انا ابن من بعضه يفوق ابا الباحث والنجلُ بعضُ من نجَلَه وإنما يذكر الجدود لهم من نفروه وأنفذوا حيلَه فخرا لعضب أروح مشتملا وسمهري اروح معتقلَه وليفخر الفخر اذ غدوت به مرتديا خيره ومنتعلَه انا الذي بيّن الإله به الاقدار والمرء حيثما جعلَه جوهرة تفرح الكرام بها وغصة لا تسيفغها السفلة وهو يذكر اسلافه ونسبه وصلته المباشرة بذلك النسب وكفاحه من أجل استرداد حقه: سأطالب حقي بالقنا ومشايخ كأنهم من طول ما التثموا مردُ ثقال اذا لاقوا خفاف اذا دعوا قليل اذا عدوا كثير اذا شدّوا حقه اذن مرتبط بناس متلثمين باستمرار، او بناس متنكرين او متخفين أو غائبين ولكثرة اختفائهم وغيبة وجوههم وراء اللثام المجازي صاروا كالمرد ولابد ان يكون هؤلاء الملثمون اصحاب «قضية» تدعوهم إلى الاختفاء أو (الغيبة). ومن أعمق التعبيرات النفسية التي انطلق منها ضمن سلوك يفضح حقيقة صمته المتواصل تجاه (اب او تجاه (قضية) أو تجاه اضطراره إلى كتمان امر ما، هما البيتان اللذان جاءا في قصيدة مدح بها سيف الدولة: أفي كل يوم تحت ضبني شويعر ضعيف يقاويني قصير يطاول لساني بنطقي صامت عنه عاذل وقلبي بصمتي ضاحك منه هازل وهو يفصح متألما عن حقيقة مغروسة في أعماقه: لا بقومي شرفت بل شرفوا بي وبنفسي فخرت لا بجدودي وبهم فخر كل من نطق الضاد وعوذ الجاني وغوثُ الطريد إن أكن معجباً فعجب عجيب لم يجد فوق نفنه من مزيد ولا يمكن ان يكون ابن سقاء من الكوفة من يقول: ما مقامي بأرض نخلة الا كمقام المسيح بين اليهود أنا ترب الندى وربّ القوافي وسمام العدى وغيظُ الحسود أنا في أمة تداركها الله غريبٌ كصالح في ثمود وانفعالاته التي تعبر عن سمو أصله ومجد انتمائه الأسري لا تنتهي ومنها: لتعلم مصر ومن بالعراق ومن بالعواصم أني الفتى واني وفيت واني أبيت واني عتوت على من عتا هذا الخطاب الموجه لأهل مصر وأهل العراق وأهل العواصم الذي أعلن فيه المتنبي بانه (الفتى) وهو في معرض هجائه لكافور لم يكن أكثر من بطاقة هوية كلمة (الفتى) هنا تعني بكل دقة انه الإنسان الذي يجب ان ينظر إليه من جوانب أصالته بعد ان وفى بوعده على كتمان امره وأمر نسبه. وبعد ان ابى ان يكون شاعراً نهازاً أو مرتزقاً، وبعد ان عتا على الحاكم الجائر. توضح هذه الانفعالات الحادة المنطلقات التي ينطلق منها وهي قائمة على مجد وشرف وسمو تخول له مخاطبة أهل مصر وأهل العراق وأهل العواصم كما يخاطب الملوك رعاياهم أو كما يخاطب الإمام أصحابه. وهذا ما يجعلنا نستبعد بصورة نهائية احتمال كون المتنبي ابن «سقاء» ابن "حرفي" في القرن الرابع الهجري كما أرهف الرواة. وهو يقول وكان دون الثامنة عشرة عن عمره: محبّي "قيامي" ما لذلكم النصل بريئاً من الجرحى سليماً من القتل فما هي أهمية المتنبي في ذلك العمر ليطلب منه القيام بثورة، ومن هم محبو قيامه أو ثورته؟ وعلى من ارادوا الثورة؟ ولماذا ارادوا من هذا المراهق بالذات ان يثور ولحساب من ولأي غرض؟ كلمة "قيام" تعني الثورة على الظلم أو على السلطان إلى جانب تخطيها المعنى السياسي إلى المعنى المذهبي. نعت الإمام محمد المهدي نفسه بالقائم كما نعت بعض أجداده من الأئمة عندما استعمل هذه الكلمة (محبي قيامي) قصد بكل دقة الثورة بشمولها الزمني والديني فأي ثورة كانت تجول بذهن ذلك المراهق يشجعه عليها محبو قيامه: أهي ثورة السقائين في حي كندة بالكوفة، أم هي ثورة تنبثق من أحاديث شخصية ومجالات كثيرة من قبل ناس يعرفون الشيء الكثير عن أهمية المتنبي ونسبه فيطلبون منه ان يثور على السلطان ليملأ الأرض عدلا بعد ان ملئت جورا، وهل يعقل ان يكون الذين اختاروا المتنبي لهذا العمل الجليل بالرغم من صغر سنه لا يعرفون حقيقته ومركزه الأسري والاجتماعي؟ كثيرة هي الأشعار والأخبار والمواقف التي يمكن للمرء ان يستلّها من ديوان المتنبي وسيرته ليجنح الى القول ان سراً ما في الذات كان يخفيه المتنبي ولكنه كان يصدر عن هذا السر في هذا الموقف أو ذاك. اشترط مثلاً على سيف الدولة عندما دعاه إلى الالتحاق به في حلب انه اذا انشده مديحه لا ينشده الا وهو قاعد، وانه لا يكلّف تقبيل الأرض بين يديه. فنُسب اليه الجنون ودخل سيف الدولة تحت هذه الشروط. وهذا يذكرنا بموقف طاهر العلوي من المتنبي عندما أجلسه في محله وجلس هو بين يديه يستمع إلى شعره. الا يعني هذا اقتناع الأميرين، كل على حدة، بصحة نسب المتنبي وأصالته؟ قرائن كثيرة في شعر المتنبي دفعت بالباحث المصري الكبير الراحل محمود محمد شاكر إلى الخروج بفرضية اعتبار المتنبي ذا حسب ونسب، وكان وجه القضية عنده، كما ورد في كتابه عن أبي الطيب: تزوج رجل من العلويين - ولا جرم ان يكون من كبارهم - بنت جدة المتنبي فحملت منه ووضعت أحمد بن الحسين ولأمر ما أراد هذا الرجل طلاق امرأته وفراقها وطلقها فرجعت إلى أمها بجنينها أو طفلها وحزنت حزناً أهلكها فاستلّها الموت وذهب بها وبقي الطفل وكفلته جدته. ثم صرحت له بحقيقة أمره وصحيح نسبه وحذرت الفتى من عواقب التصريح بنسبه حتى كان من أمره ادعاؤه العلوية بالشام فقبض عليه فاضطر إلى الاخلاءد والتسليم. هذه هي وجهة نظر محمود شاكر حول نسب المتنبي التي استخلصها من شعره والتي انضم إليها فيما بعد كما أضاف إليها باحثون آخرون حيثيات وقرائن كثيرة. ومع ان وجهة النظر هذه لا تعززها سيرة المتنبي في كتابات الأقدمين، الا ان شعره يقطع بأن صاحبه لا يمكن ان يكون على الاطلاق ابن سقاء من الكوفة. ففؤاده، كما ذكر في بيت له، من الملوك وإن كان لسانه يرى من الشعراء. وأياً كان الأمر فإن الدعوى التي قدمها محمود شاكر باسم المتنبي بقصد استرداده لنسبه دعوى متينة مطروحة أمام التاريخ يزداد أنصارها والمدافعون عنها مع الوقت.